للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فهو يتصور الندى بكرياته اللؤلؤية طيبًا سقط من غدائر السحاب وشعره المسترسل على لمم الثرى ولحاه من العشب والأشجار. ونمضي معه فيقول:

من كل زاهرة ترقرقُ بالندى ... فكأنها عينٌ إليك تحدرُ١

تبدو ويحجبها الجميمُ كأنها ... عذراءُ تبدو تارةً وتخفَّرُ٢

حتى غدت وهداتها ونجادها ... فئتين في حُلَلِ الربيعِ تبخترُ٣

وليس من شك في أن هذا تشخيص رائع. وقد ذهب أبو تمام يعمم هذا التشخيص في جميع صوره وأفكاره، ولم يقف به عند هذا الجانب من شعر الطبيعة؛ بل نشره في جميع جوانب شعره. على أن هذا الصنيع كان محور حملة، شديدة عليه، حملها النقاد المحافظون من أمثال الآمدي، وقد فتح فصلًا في كتابه "الموازنة" استعرض فيه طائفة من أبيات هذا الصِّبغ وصفها بالقبح؛ غير أن القبح عند الآمدي لا يعني قبح الصورة؛ إنما يعني -كما يقول- خروج أبي تمام على تقاليد العرب في استخدام الاستعارة؛ إذ هم يستخدمونها "فيما يقارب المشبه ويدانيه أو يشبهه في بعض أحواله أو يكون سببًا من أسبابه فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه"٤. وهنا يظهر التحكم في الفن والفنانين؛ فمن قال: إن الشاعر أو الفنان ينبغي أن لا يخرج دائمًا على التقاليد؟ إن من حق الفنان أن يجدِّد وأن يقترح من الأدوات ما يريد. ولعل التبريزي كان أكثر دقة من الآمدي حين قال إن أبا تمام له مذهب خاص في الاستعارة. وما دامت المسألة مسألة مذهب؛ فقد كان يَحْسُن بالآمدي وأمثاله من النقاد المحافظين أن يخضعوا لهذا المذهب الجديد، وأن يعرفوا أن هذا نوع آخر في الاستعارة ليس هو الاستعارة المألوفة، ومن الممكن أن يأتي ناقد ويسميه اسمًا جديدًا لا يتصل بالاستعارة، وهم أنفسهم قد سموه الاستعارة المكنية على نحو


١ زاهرة: زهرة. ترقرق بالندى: يضطرب فيها. تحدر، يريد تحدر الدمع وهي ناظرة إليك.
٢ الحميم: نبات كثيف. تخفر: تستحي فتختفي.
٣ الوهدات: السهول المنبطحة. النجاد: التلال.
٤ الموازنة بين الطائيينِ ص١٠٧.

<<  <   >  >>