للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أبي تمام وتحدثوا عما فيه من صعوبة والتواء ولم يتحدثوا عما فيه من بدع وجمال.

يقول الآمدي عنه: "إنه ينسب إلى غموض المعاني ودقتها وكثرة ما يورده مما يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج"١. يروي الرواة أن أعرابيا سمع قصيدته: "طلل الجميع لقد عفوت حميدًا"١؛ فقال: إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لا أفهمها؛ فإما أن يكون قائلها أشعر الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه٢. وليس من شك في أن هذا الأعرابي كان صاحب حس مرهف دقيق، ويقص الآمدي أن ابن الأعرابي اللغوي المعروف سمع شعره فقال: "إن كان هذا شعرًا فكلام العرب باطل"٣. ولعل من الطريف أن أبا العميثل سمعه ينشد إحدى قصائده فقال له: لماذا لا تقول ما يفهم؛ فأجابه على البديهة، وأنت لماذا لا تفهم ما يقال٤، وكأني بأبي تمام يعلن عن اتجاه جديد في الشعر العربي فقد تطور هذا الشعر وتطور معه صاحبه، ولم يعد عملا شعبيًّا بل أصبح عملًا عقليًّا راقيًا؛ فالشاعر ليس من واجبه أن ينزل إلى الجمهور بل يجب على الجمهور أن يصعد إليه. وهذه الفكرة فكرة ارتفاع الشعر عن الجمهور نراها عند أبي تمام لأول مرة في تاريخ الشعر العربي، وهي إحدى الأفكار المهمة التي تثار في النقد الحديث فهل يحسن بالشاعر أن يسير وراء الجمهور أو يحسن به أن يصعد بالجمهور إلى آفاقه العليا من الفلسفة والثقافة والعمق والدقة؟ إن الشعر يكون في أول أمره شعبيًا ثم يظهر النثر ويرقى الفكر ويصبح ترفًا؛ فلا يكون لعامة الناس إنما يكون لخاصتهم من المثقفين ثقافة عميقة. وهذا ما حدث في العصر العباسي عند أبي تمام؛ فقد أصبح الشعر ترفًا وأصبح الشاعر لا يقصد إليه إلا ليرضي الطبقة المثقفة الممتازة، لا ليعبر عن شعور الجمهور كما كان الشأن في القديم. وإذن فليس من حق ناقد غير مثقف بالثقافة الحديثة أن يطلب إلى أبي تمام النزول من هذا الأفق الذي اختاره لنفسه. ليس ذلك من حق أبي العميثل ولا من حق اللغويين أمثال ابن الأعرابي؛ إنما هو من حق المثقفين في عصره بالثقافة الحديثة الذين


١ الموازنة: للآمدي ص٢.
٢ أخبار أبي تمام: للصولي ص٢٤٥.
٣ الموازنة: للآمدي ص٤.
٤ معاهد التنصيص ١/ ١٥

<<  <   >  >>