للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يسميهم الآمدي أصحاب المعاني والفلسفة، وهل يجوز في هذا العصر الذي نعيش فيه أن نحكِّم في شاعر مثقف بالثقافة الحديثة ناقدًا لم يتثقف بهذه الثقافة ولم يأخذ بحظ منها، كما هو الشأن عند أبي العميثل وابن الأعرابي بالقياس إلى أبي تمام؟ إننا لا نشك في أن مثل هذا الناقد لا يصلح للحكم على شاعر يختلف عنه في المزاج والثقافة.

ونحن لا نصل إلى القرن الثالث حتى يختل التوازن بين النقاد والشعراء؛ فقد كان أكثر النقاد من الرواة واللغويين الذين لا يتصلون بالثقافة الحديثة، فكرهوا الحديث على هذا الأساس وأحبوا ما اتصل بعمود الشعر العربي وآثروه على ما يتصل بعمود الفلسفة والثقافة الحديثة، ونحن لا نستجيب لحكم هذه الطائفة على أبي تمام بل نحن نقف مع أنصاره من أصحاب المعاني والفلسفة؛ فإن من يطلب اللذة العقلية في الفن لا بد أن يعجب بهذا الشاعر المتفلسف الذي ما يزال يستهدف للخواطر الباطنة والمعاني العويصة؛ فإذا هو يتعثر في بعض الأساليب والتراكيب، وإذ هو ينحرف عن عمود الشعر المألوف ولكنه انحراف محبب إلى نفوسنا رغم لوم اللائمين ونقد الناقدين.

ومهما يكن فإن شعر أبي تمام يستحوذ على صعوبات كثيرة؛ إذ نراه يمتلئ بكثير من الأسرار الغامضة التي تجعل الإنسان يخرج عن نطاق نفسه ويسير مع الشاعر كما يريد له في هذا العالم الحالم. أما ما فيه من صعوبة والتواء فذلك طبيعي عند شاعر كان يعتمد في شعره على الفلسفة والفكر الدقيق، وهل يمكن لشاعر يلعب العمق والخفاء في شعره وتلعب الفلسفة والثقافة في فنه أن يعبر تعبيرًا مألوفًا؟ إنه يبحث ويجرِّب، وكل عبارة عنده إنما هي بحث وتجربة، وقد يخطئ أحيانًا إنه يبتكر أفكارًا وصورًا جديدة؛ ولكنه يحس دائمًا أن اللغة لا تستطيع أن تؤدي ما يريد، وما اللغة؟ إنها ليست إلا رموزًا غامضة، وإن نظرية اللغة لتحتل حيزًا واسعًا في دراسات النقد الحديث، وقد كتب "ريتشاردز" و"أوجدن" كتابًا قيمًا في هذه النظرية سَمَّياه معنى المعنى"the Meaning of Meaning"

<<  <   >  >>