ونحن نرى هذا الكتاب يقرر منذ الفصل الأول أن الكلمات ليست إلا رموزًا نؤدي بها ما في أنفسنا، وهي رموز ناقصة لا يستطيع الإنسان أن يضبط مدلولاتها أو يحددها إلا ما اتصل منها بالأعلام وأسماء الأماكن، أما ما يتصل منها بالمعنويات والعواطف؛ فإنه غير مضبوط ولا محدود. ويعرض الكتاب لقوة الكلمات في الرمز وما يسودها من غموض وإبهام وما قام به الفلاسفة والسوفسطائيون من ضبط مدلولاتها وما صنعه أرسططاليس في منطقه من ذلك الضبط. ويتحدث الكتاب عن أهمية الشروح والتفاسير في فهم الشعر وأنها دليل على أن معانيه وضعت في رموز. وما يزال الكتاب يبحث بحثًا واسعًا طريفًا في صعوبة اللغة وصعوبة التعبير بها وما يكتنف الألفاظ من تحوير في استعمالاتها المختلفة عند الأدباء؛ بحيث يمكن أن يقال إن للكلمات وظيفة لغوية أو معجمية، ولكن هذه الوظيفة تضاف إليها وظائف أخرى حسب رغبات الأدباء والشعراء وما يريدونه في عباراتهم بتلك الرموز القاصرة، ومن أجل ذلك كانوا يحرفون في مدلولاتها تحريفًا واسعًا حتى يستطيعوا أن يعبروا عن المعاني التي تختلج في نفوسهم، وهي معانٍ أوسع من تلك الأدوات اللغوية التي اصطلحنا عليها؛ بل هي أصعب من أن تؤديها، ولذلك كان من حقهم أن يحوروا فيها حسب إرادتهم الفنية. والكتاب يفيض بأبحاث واسعة في صعوبة اللغة والتعبير الفني.
وإنما سقنا هذا الكلام أمام جانب الغموض والمعاني العويصة في شعر أبي تمام لأن هذا الجانب آثار ضجة واسعة حول شعره وفنه في النقد العباسي، وهي ضجة تشبه من بعض الوجوه تلك الضجة التي شبَّت في فرنسا حول مذهب الرمزيين حين تفرغ عن مذهب البرناسيين"les parnassiens"، فكما كان هؤلاء يعنون بالموسيقى والجمال المادي ويعيبون على الرمزيين غموضهم، كذلك كان كثير من النقاد والأدباء في العراق ينحرفون عن أبي تمام وغموضه في فنه، ويظهرون ميلًا إلى الجمال الصوتي عند البحتري وأمثاله، وكما كان الرمزيون حديث الحي اللاتيني والمنتديات الأدبية في أواخر القرن التاسع عشر، كذلك كان أبو تمام وفنه حديث المنتديات في بغداد ومجالس الأمراء والوزراء.