للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحضريين العباسيين أنفسهم من التثقف باللغة والشعر القديم، حتى استحالت إليهم السليقة العربية ووقفوا على طريقة القوم في التعبير والصياغة وقوفًا دقيقًا. روى صاحب الأغاني أن بشارًا أنشد خلفًا الأحمر قصيدته.

بَكِّرا صاحبيَّ قبل الْهَجِيرِ ... إن ذاك النجاحَ في التَّبْكير

حتى فرغ منها؛ فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان إن ذاك النجاح في التبكير "بَكِّرا فالنجاح في التبكير" كان أحسن، فقال له بشار: بَنَيْتُهَا أعرابيَّة وحشيَّة فقلت: إن ذاك النجاح كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت: "بَكِّرا فالنجاح في التبكير" كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة، فقام خلف فقبَّل بين عينيه١".

ولكن هل معنى ذلك حقًّا أن المولدين لم يتطوروا بأسلوبهم؟ الحق أنهم تطوروا به تطورًا واسعًا، حتى أصبح هناك في وضوح أسلوبان: أسلوب للقدماء، وأسلوب للمولَّدين العباسيين، ولسنا نقصد أن هؤلاء المولدين كان يجري على ألسنتهم شيء من اللحن في التصريف أو في الإعراب مما سجله المرزباني في الموشح نقلًا عن علماء اللغة من معاصريهم٢ ومما جعل السيد الحميري يقول عن شعره:٣

أحوك ولا أقْوِي ولست بلاحن ... وكم قائل للشعر يُقوِي ويَلْحَنُ

وأيضًا لسنا نقصد ما كان يجري على ألسنتهم من تملح وتظرف بحشد بعض الألفاظ الفارسية في أشعارهم، وخاصة عند شعراء الجيل العباسي الثاني من مثل أبي نواس؛ وإنما نقصد أنهم على الرغم من تقيدهم بكثير من تقاليد القدماء ولا سيما في شعر المديح الرسمي وصناعة الأراجيز استطاعوا أن ينفذوا إلى لغة شفافة مبسَّطة تقف بين الإغراب والابتذال فهي لا ترتفع إلى عشر أمثال رؤبة وابنه عقبة وأبي نخيلة، وهي لا تسقط إلى كلام العامة، يدعمها ذوق سليم يعرف كيف يختار من العبارات أجملها صياغة وسبكًا، وكيف ينوع في معانيه، فلا يقف


١ أغاني ٣/ ١٩٠.
٢ انظر على سبيل المثال ما كتبه عن أبي نواس.
٣ الموشح ص١٤.

<<  <   >  >>