للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أو ظهور "الصنعة"؛ فقد كان الشعراء أنفسهم يلتزمون لوازم كثيرة في صناعة شعرهم، كان الناس من حولهم يراقبونهم ويشجعونهم على التفوق والإجادة؛ وكأنما كان هناك ذوق عام يدعو الشعراء إلى التجويد والتحبير، يقول الجاحظ: "وهم يمدحون الحذق والرفق والتخلص إلى حبَّات القلوب وإلي إصابة عيون المعاني ويقولون: أصاب الهدف؛ إذا أصاب الحق في الجملة، ويقولون قَرْطَسَ فلان وأصاب القرطاس، إذا كان أجود إصابة من الأول، فإذا قالوا: رمى فأصاب الغُرَّةَ وأصاب عين القرطاس؛ فهو الذي ليس فوقه أحد، ومن ذلك قولهم: فلان يَفُلُّ الْحَزَّ ويصيب المفصل ويضع الهِناء مواضع النقب"١

ولعل ما يفسر ذلك أيضًا أنهم كانوا يسمون الشعراء بأسماء تصور مهاراتهم وإجادتهم؛ فربيعة بن عدي كان يسمَّى المهلهل؛ لأنه أول من هلهل الشعر وأرقَّه٢ وكان طفيل الخيل يسمَّى المحبِّر لتزيينه شعره٣، وكان النمر بن تولب يسمَّى في الجاهلية الكيس لحسن شعره٤، وكذلك سُمِّيَ النابغة باسمه لنبوغه في شعره٥، كما سمي المرقش باسمه لتحسينه شعره وتنميقه٦، وسمي علقمة بالفحل٧ لجودة أشعاره، وبجانب ذلك نجد أسماء أخرى مثل المثقب والمنخل والمتنخل والأفوه. وقد سموا القصائد بأسماء تصور هي الأخرى مبلغ تفوقهم وإجادتهم فسموها اليتيمة٨ وسموها السموط٩ وسموها الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات١٠.

وكل ذلك يدل على أن الشعراء كانوا يمتحنون وسائلهم ويجربونها، وما يزالون يبحثون عن "الأدوات" التي تكفل لشعرهم التفوق والنجاح، حتى


١ البيان والتبيين ١/ ١٤٧. وقولهم: فلان يفل الحز ويصيب المفصل أخذوه من صفة الجزار الحاذق فجعلوه مثل للمصيب الموجز، والهناء: القطران، كانوا يضعونه على النقب جمع نقبة وهي أول ما يبدو من الجرب في الإبل.
٢ أغاني طبعة دار الكتب ٥/ ٥٧.
٣ المفضليات "طبعة Lyall"
١/ ٤١٠.
٤ الشعر والشعراء ص١٧٣.
٥ العمدة لابن رشيق ١/ ١٣٧.
٦ المفضليات ١/ ٤١٠، ١/ ٤٨٥.
٧ أغاني "طبعة ساسي" ٢١/ ١١٢.
٨ أغاني "طبعة دار الكتب" ١٣/ ١٠٢.
٩ أغاني "ساسي" ٢١/ ١١٢.
١٠ البيان والتبيين ٢/ ٩.

<<  <   >  >>