للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولا نكاد نمضي في عصر المتوكل حتى يصبح شاعر البلاط الرسمي، ونراه يكثر من مديحه، ومديح وزيره الفتح بن خاقان، وقد قدم إليه فيما يقال كتابه"الحماسة" الذي صنعه محاكاة لحماسة أبي تمام. وهو يدل على ثقافته الواسعة بالشعر القديم وأنه كان يضع أبا تمام نصب عينيه؛ فهو يحاكيه حتى في التأليف، أما في الشعر فكان يستظهر قصائده وينقل معانيها إلى أشعاره، ولاحظ القدماء ذلك فوقفوا كثيرًا عند سرقاته منه، وأفردوها بالتأليف.

وهو يسجل لنا الأحداث لعهد المتوكل من مثل ثورة أرمينية كما يسجل أعمال هذا الخليفة من مثل تشييده لبعض القصور. وذكر في رثائه أنه حضر مصرعه ومصرع وزِيرِهِ١ الفتح. وفارق بغداد إلى المدائن؛ فوصف إيوان كسرى متحسرا على أيام الفرس، وكأنه يأسى لما صارت إليه الأمور حين أمسك الترك بزمام الحكم. ويظهر أنه ولَّى وجهه نحو موطنه "منبج"؛ غير أنه لم يلبث أن عاد إلى بغداد فمدح المنتصر، وعاد له مركزه في البلاد لعهد خلفائه: المستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد.

وعلى هذا النحو ظل أكثر من أربعين عامًا الشاعر الرسمي للخلفاء العباسيين يدوِّن أعمالهم وما يشيدونه من قصور، كما يدون حروبهم مع الثائرين عليهم في الداخل من مثل الزنج في ثورتهم المشهورة لعهد الموفق، وكذلك حروبهم في الخارج. وله قصيدة يصور فيها تصويرًا رائعًا أسطول أحمد بن دينار الذي غزا به بلاد الروم٢. وجعلته مكانته في البلاط العباسي يتصل بالوزراء وكبار رجال الدولة ويمدحهم، وديوانه من هذه الناحية سجلٌ حافل بأسمائهم وأسماء كثير من أعيان بغداد وعلمائها من مثل المبرد وابن خرداذبه وعلي بن المنجم.

وهذه الصلة المستمرة بالخلفاء والوزراء والموظفين الكبار والأسر الغنية في بغداد ملأت حجره بالأموال حتى يقال إنه كان يمشي في موكب من عبيده، وكانت له ضياع كثيرة، وفي ديوانه شكوى دائمة من عمال الخراج، ونراه يتوسل إليهم كي يخففوا عنه ما يطالبونه به أو يسقطوه إسقاطًا. وكان فيه حرص


١ الديوان "طبعة القسطنطينية" ١/ ٢٨.
٢ الديوان ١/ ٢٥٧.

<<  <   >  >>