للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

استعمل أداة منها استعملها استعمالًا ساذجًا لا صعوبة فيه ولا تركيب، كما نرى في هذا الطباق؛ فإنه لم يكد يخرج به إلى صورة معقدة؛ إذ هو يفهم الطباق هذا الفهم البسيط الذي لا يضيف إلى الشعر جمالًا عقليًّا خاصًّا، ولكن انظر إلى استخدام هذا الطباق عند أبي تمام، فإنك تراه يستخرج منه أصباغًا تحيِّر وتعجب، واقرأ لأبي تمام هذا البيت الذي يصف فيه بعيره وما أصابه من نحول وسقم لكثرة أسفاره؛ إذ يقول:

رعته الفيافي بعد ما كان حِقْبَةً ... رعاها وماءُ الرَّوضِ ينهلُّ ساكبُهْ

فإنك تحس غرابة في الأداة، وكأنها تخالف مخالفة تامة تلك الأداة من الطباق التي رأيناها عند البحتري؛ ذلك أن أبا تمام لا يلجأ إلى المطابقة والمقابلة بين الأشياء، كما توحي الذاكرة بل هو يعود إلى عقله وفلسفته فيعمل فكره، ويُكدُّ ذهنه، حتى يستخرج هذه الصورة الغريبة من التضاد؛ فإذا بعيره يَرعى ويُرعى، يرعى الفيافي، وهو رعي غريب استحوذ على جهد عنيف من الشاعر، حتى استطاع أن يستخرج هذه الصورة المتناقضة أو المتضادة، والتي يحسُّ الإنسان بإزائها إحساسًا واضحًا أنها من نوع آخر غير طباق البحتري؛ فطباقه ليس فيه فلسفة وليس فيه عمق وليس فيه تفكير بعيد؛ هو طباق ساذج لا صعوبة فيه ولا تعقيد، هو طباق الذاكرة إن صح هذا التعبير؛ فهو يذكر الوصل فيأتي الهجر، وهو يذكر الذل فيأتي الكبر، وهو يذكر السهل فيأتي الوعر. وعلي هذا النظام ما يزال يصوغ طباقه فلا تحس فيه جمالًا إلا حين يخرج به إلى الملاءمة بين الأصوات؛ غير أننا إذا رجعنا إلى أبي تمام رأينا صبغًا حديثًا من الطباق على هذا النحو الذي رأينا فيه دابته تَرعى وتُرعى رعيًا غريبًا، وهي طباق فلسفي إن صح هذا التعبير، بل لقد كان أبو تمام -كما سنرى- يفصله عن الطباق القديم ويسميه: نوافر الأضداد، وقد استخرج هذه النوافر من ثقافته الفلسفية، وذهب يستخدمها استخدامًا فنيًّا واسعًا في شعره.

كان أبو تمام يستخدم الطباق استخدامًا فلسفيا، وهذا ما يفرق بين طباقه وطباق البحتري، بل هو نفسه الذي يفرق بين مواد الصناعة عند كل منهما.

<<  <   >  >>