وقد استطاع ابن الرومي في هذه الأبيات لا أن يجسم الهنوات فقط، بل أن يقيم بينه وبينها هذا الحوار الغريب. ومهما يكن فقد كان ابن الرومي يكثر من استخدام أداة التجسيم في شعره، كما كان يكثر من استخدام أداة التشخيص وأكبر الظن أنه اندفع إلى ذلك تحت تأثير حساسيته الخاصة فمثله ممن يتطير ويتشاءم ويكبر التوافه لا بد أن يلتزم ذلك في تصويره ومعانيه؛ فهو كثير الخيال والأحلام، يتصور الخيال والحلم حقيقة فينفعل ويعظم انفعاله.
ويكبر تصوره ويتضخم، فإذا المعاني والأشياء تتجسم أمامه وتشخص، وإذا لها كل ما للأحياء من خواص وصفات، فهي تعقل عقلها، وهي تحس إحساسها وهي تشعر شعورها، ولعل هذا هو ما جعله يستعير من أبي تمام هاتين الأداتين من التجسيم والتعقيد وإن كان أبو تمام يستعلي عليه بما يستعين به من الغموض والدقة والتعقيد في التصوير. وهذا هو ما يفرق دائمًا بين الصانعين والمصنعين في القرن الثالث، فإن الأولين يستخدمون أدوات الأخيرين، ولكن دون أن يعقدوا فيها، أو يغيروا في صورها وأشكالها. وكما حدث ذلك عند ابن الرومي في استخدام ألوان التصنيع حدث كذلك في استخدامه لألون الثقافة القاتمة فإنها لم تتحول عنده إلى ألوان فنية زاهية. والحق أن أصحاب الصنعة كانوا من ذوق آخر فهم لا يهتمون باستخدام أدوات التصنيع دائمًا، وهم حين يستخدمونها لا يكثرون منها ولا يعقدون فيها ولا يضيفون إليها ألوانًا جديدة من ثقافة أو فلسفة على نحو ما سنرى عند أبي تمام.