للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَخْلُ منها صفحة من صفحات ديوانه، ويظهر أنه لم يكن يأتي بها عن فلسفة فقط؛ بل كان يأتي بها أيضًا عن مزاج، ولعله من أجل ذلك كان يعجب بجهم بن صفوان؛ فقد ذكره مرارًا كثيرة في شعره. وكان جهم معروفًا بالتناقض في فكرته عن عمل الإنسان، إذ يمنع أن يكون له اختيار وقدرة على ما أُمر به فهو مجبرٌ ومع ذلك يجعله مكلفًا يعاقب على ما يفعل، وأشار أبو تمام إلى ذلك في قوله لبعض ممدوحيه:

عمريٌّ عظم الدينِ جَهميُّ النَّدى ... ينفي القُوى ويثبِّت التكليفا

يقول التبريزي: "أي هو في دينه وعفَّته مثل عمرو بن عبيد وعلى مذهبه، وفي جوده وسخائه على مذهب جهم بن صفوان؛ لأنه ينفي أن يكون للعبد قدرة على ما هو مأمور به ومع ذلك يجعله مكلفًا أي هو مجبر على البذل فلا يمكنه تركه"١. وانظر كيف استغل هذا المذهب من الجبر استغلالًا فنيًّا واتخذه ليعبر عن فكرة عنده تعبيرًا من طراز غير مألوف. وأراد مرة أخرى أن يصف الخمر وأن يُغرب في وصفه فلم يجد إلا مذهب جهم وإلا عقدة أخرى من عقده، فذهب يقول:

جهميةُ الأوصاف إلا أنهم ... قد لقبوها جوهر الأشياءِ

فهي جهمية أي ليس لها اسم ومع ذلك تلقب بجوهر الأشياء، وأصل الفكرة أن جهم بن صفوان "كان يمتنع من أن يسمي الله باسم، ويعتقد أن الاسم إنما يطلق على الجواهر والأعراض، فيقول أبو تمام رقَّت هذه الخمرة حتى كادت تخرج من أن تكون عَرَضًا أو جوهرًا وأن تسمى شيئًا إلا أنها لفخامة شأنها لقبت جوهر الأشياء"٢؛ فهي مسماة وغير مسماة في الوقت نفسه. وكان أبو تمام يرى هذه الأضداد مظهرًا من المظاهر الأساسية في الحياة، يقول في بعض أشعاره:

فلأذربيجان اختيالٌ بعدما ... كانت معرَّس نكبة ونكالِ

سَمُجت ونبَّهنا على استسماجها ... ما حولها من نضرةٍ وجمالِ


١ التبريزي ٢/ ٣٨٧.
٢ التبريزي ١/ ٣٤ وما بعدها.

<<  <   >  >>