وهو يغمر ذلك كله في ألوان تصنيعه من جناس وطباق وتشخيص؛ فهذه نواصي الليالي قد شابت، ولا تزال عمورية تكسوها غفلات الزمان شبابًا وفتنة. ونستمر حتى نجد تلك الصورة التي يصور فيها الأجيال تمخض عمورية مخض البخيلة حتى كانت زبدة الدهور. وهي صورة قد تكون غير مألوفة، ولكن أذواقنا لا ترفضها، وكان أبو تمام كثيرًا ما يعرض مثل هذه الصورة بحكم تصنيعه وتعمقه في مذهبه. ونراه بعد ذلك يستخدم نوافر الأضداد؛ فهذه عمورية كانت تفرج الكرب. وهي اليوم تسببها، وهو عنصر فلسفي أو يوناني، ولعلك تعجب إذ تراه يلائم بينه وبين عناصر الفأل والنحس والجرب، وهي عناصر عربية؛ ولكن أبا تمام كان يعرف كيف يوحِّد بين عناصر الثقافات المختلفة في عصره، ويكون منها هذا الزخرف الفني الغريب الذي ما يزال يرصع به قصائده على أشكال وصور شتى.
وإذا مضينا في القطعة وجدناه يعنى بالتدبيج؛ إذ يقف عند الدم السرب، وحينئذ يعمد إلى المقابلة؛ فهذا الخضاب على الرءوس ليس خضاب سُنَّة؛ وإنما هو خضاب سيوف، وأنت ترى في ذكر السنة هنا شيئًا من العناصر الإسلامية. ثم يتحدث عن اليوم الذي حرقت فيه عمورية، فيصفه بأنه يوم ذليل الصخر والخشب، وهي ذلة غريبة؛ فكيف يذل الصخر والخشب؟ ولكنه عنصر عربي يستغله في التعبير عما أصابها من ذلة وهوان؛ إذ يرى العرب يقولون: فلان أذل من الوتد. ونراه يستمر في الحديث فيصف النار وهي مشتعلة في عمورية آناء الليل. وحينئذ يلعب بالنار والظلماء؛ فهو ينظر ولكن ماذا ينظر؟ إنه في ضحى بل هو في صبح. فليس حوله إلا النور وإلا تباشير الصباح وقد خيل إليه كأن جلابيب الدجى رغبت عن لونها. وما أجمل تلك الصورة التي جعلها ترسخ في أذهاننا بقوله: أو كأن الشمس لم تغب! وهنا تطل علينا من بين أبياته ثقافته الدينية؛ إذ يستغل قصة يوشع التي تذهب إلى أن الشمس تأخرت من أجله عن مغربها. فكأن هذا يوم يوشع! إنه يوم المعجزة الكبرى في تاريخ العرب. يوم عمورية. وإنه ليعجب حين يذكر نهار