وطبيعي أن يعدل ابن المعتز بتصنيعه إلى التشبيه؛ لأنه لا يحتاج بعدًا في الخيال ولا عمقًا في التصوير، وكأني به قال: دَعْني أبدِّل قيثارتي بلوحة الألوان، ولكنه حين انتقل هذه النقلة لم يحسن استخدام جميع الألوان التي تركها أبو تمام، بل لم يحسن استخدام لون التصوير نفسه؛ فقد انحاز إلى صبغ واحد من أصباغه وهو صبغ التشبيه، وترك الأصباغ الأخرى من تدبيج وتجسيم وتشخيص؛ غير أن من الحق أن نحمد لابن المعتز صنيعه بهذا الصبغ، فقد حوَّله إلى صبغ واسع وراح يستخرج منه أوضاعًا لا تحصى يزيِّن بها شعره ويجمله وهنا يأتي تصنيعه، فصبغ التشبيه أصبح عنده صبغًا ثريًّا بأوضاعه المتضاربة.
وليس من شك في أن هذه مقدرة ممتازة، تلك التي استطاع بها ابن المعتز أن يحول صبغ التشبيه إلى ما يشبه اللون الأخضر مثلًا في الطبيعة؛ فإذا هو على ضروب وأوضاع مختلفة، وإذا لكل ضرب ووضع روعة فاتنة. وإنها لمهارة تلك التي يستطيع صاحبها أن يؤلف لوحة من لون واحد فإذا هو زاهٍ أو باهت في بعض الجوانب، وإذ هو يتراوح بين هذين الصبغين إلى ما لا يحصى من أصباغ في الجوانب الأخرى. وحقًا أن ابن المعتز أظهر مهارة واسعة في هذا الصبغ من أصباغ التصوير؛ إذ عرف كيف يحول صبغًا محدودًا إلى صبغ واسع، ثم أخذ يستخرج منه أوضاعًا مختلفة حتى لا يحس قارئه بتكرار في المنظر؛ فهو لون واحد، بل هو صبغ واحد، ولكن الشاعر المصنِّع بارع؛ إذ يجعلنا نخطئ في الحس والتقدير، ونظن أننا نرى لونًا واسعًا له أوضاعه الكثيرة التي تنقلنا من عالمنا الحسي إلى عالم خيالي واهم. واقرأ هذه الأبيات إذ يقول في النرجس:
كأن أحداقَهَا في حسنِ صورتِهَا ... مداهنُ التبرِ في أوراقِ كافورِ