للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

جوانب حرفته دون أن يغرب فيه ما يلاحظه القارئ في نماذجه من أنه إذا تحدث في موضوع مطروق كوصف الإبل أو وصف الأطلال عمد إلى الألفاظ الغريبة؛ فإذا كان الموضوع غير مطروق من مثل الحكم أو المدح لم يعنَ باللفظ الغريب كأنه يكتفي بغرابة المعاني الجديدة نفسها. وليس من شك في أن هذه العناية باللفظ الغريب في الموضوعات المطروقة تمثله لنا باحثًا عن كل ما يمكن من طرائف يضيفها إلى فنه؛ فإن عدم هذه الطرائف في المعاني والصور عمد إلى اللفظ نفسه فأغرب فيه محاولًا أن يستتم بذلك ما يريد من إغراب وإطراف وأخرى تلاحظ في مطولته، لم نتحدث عنها حتى الآن، وهي أنه قد استوى للقصيدة عنده من التنسيق ما لم يستو لها عند سابقيه، فإننا نجدها تبدأ بوصف الأطلال والديار، ثم ينتقل زهير إلى غرضه من المديح لهرم بن سنان وصاحبه، لحسن سعيهما في الصلح بين عبس وذبيان، ويتكلم في أثناء ذلك عن الحروب وسوء أثرها ثم يختمها بالحكم. وبذلك تأخذ القصيدة القديمة شكلها النهائي عند زهير؛ فيكون لها مقدمة وموضوع وخاتمة، ولا نعود نشعر بخنادق وممرات بين أبياتها؛ إذ لا نراها توزع على موضوعات ومناظر كثيرة كما هو الشأن في مطولتي امرئ القيس وطرفة، إنما نرى "التنسيق" الوثيق والربط المحكم، والحق أن زهيرًا استطاع أن يحقق لصنعة الشعر في العصور القديمة كل ما يمكن من تحبير وتجويد؛ فقد أصبح الشعر عنده حرفة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وماذا ينقصه كحرفة؟ إن زهيرًا يتكسَّب به، وهو من أجل ذلك يوفر له كل ما يستطيع من أسباب المهارة البيانية والجودة الفنية.

<<  <   >  >>