يقبل على صنع فنه كما يقبل أصحاب التفكير الفلسفي على عملهم، فيعتنقه على أنه مذهب أو طريقة مرسومة، ونفس المعري وهو أقرب الشعراء في هذه العصور إلى الذوق الفلسفي نجده يكتب مقدمة للزوميات؛ وذلك يؤذن بأنه سيرسم لنا مذهبًا معينًا فيها، ولكن ما نلبث أن نراه يرسم هذا المذهب ويحدده بوجوه من التعقيد في القافية وكأنه لا يحس بأنه صاحب منهج فكري. وهذا نفسه يلفتنا إلى ضروب من الخلاف بين الشعراء الغربيين المحدثين وبين شعراء العرب السابقين؛ إذ نرى كثيرًا من الأولين يكتبون مقدمات لدواوينهم، يقررون فيها مناهج مذهبية في عمل الشعر وصناعته، أما العرب فقلما كتب منهم شاعر مقدمة نحا بها هذا النحو، وهو معنى ما نقوله من أنهم لم يتخذوا الشعر مذهبًا أو كالمذهب لعدم عمق تفكيرهم الفلسفي وانحصار آماده في حدود ضيقة، وهذا نفسه أحد الأسباب التي لم تنوع مذاهب الشعر في الأدب العربي على نحو ما نرى في الأدب الغربي؛ فقلما نجد شاعرًا يحس كأنه صاحب منهج أو مذهب جديد.
وكانت هذه الموجة الهنيئة من التفكير الفلسفي التي رأيناها عند أبي تمام خليقة بأن تنبعث من ورائها موجات فلسفية على ألوان كثيرة في الشعر العربي، ولكن الشعراء انحازوا عن العمق ولم يلامسوا الفلسفة إلا من الظاهر؛ إذ نراهم يستخدمون بعض الأمثال أو بعض العبارات كما سنرى عند المتنبي؛ غير أن ذهنهم بقي محافظًا في حدود التفكير القديم، وإن الإنسان ليخيل إليه كأنما كان الفكر العربي يقتبس من فلسفة اليونان في شيء من الحذر.
والحق أن التفكير الفلسفي لم ينوع في أصباغ الشعر العربي لهذه العصور؛ بل نحن نرى هذا الشعر لا يستطيع أن يحافظ على ما تركه له أبو تمام من أصباغ فلسفية، ولذلك لم يحدث فيه تغيير واسع في أصباغه العقلية، بل لعل هذا نفسه كان من أهم الأسباب التي جعلته ينحرف عن الغموض والرمز. وكان فن أبي تمام خليقًا بأن يبعث في الأدب العربي نزعة رمزية واسعة، ولكن شيئًا من ذلك لم يتحقق، قد يمكن أن نلاحظ طرفًا من آثار هذه النزعة في البيئات المذهبية.