صناعة شعرهم عن آبائهم الجاهليين إلا قليلًا. فقد ظلوا ينظمون شعرهم على الصورة الجاهلية، ولم يؤثر الإسلام فيهم تأثيرًا واسعًا، على نحو ما هو معروف عن الحطيئة وأضرابه، وحتى حسان بن ثابت لا نجد في نسيج شعره من أثر الإسلام خيوطًا كثيرة، ولذلك لم يخطئ ابن سلام حين قرن في كتابه "طبقات فحول الشعراء" هؤلاء المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية والإسلام إلى الجاهليين.
وإذا مضينا في عصر بني أمية وجدنا تطورًا واسعًا يحدث في الشعر العربي، بتأثير الإسلام ومعانيه الروحية وبتأثير الفتوحات واختلاط العرب بأهل البلاد المفتوحة في خارج جزيرتهم وداخلها. وقد تحولوا يتحضرون ويمصرون الأمصار، ويتخذون القصور، ونهض لهم الموالي بحياتهم المادية في جميع شئونها لا في المدن الممصرة فحسب مثل البصرة والكوفة، بل أيضًا في مدن الحجاز مثل مكة والمدينة، وكان مما نهضوا لهم به نهضة واسعة فن الغناء، إذا استحدثوا فيه نظرية جديدة هي التي نقرؤها في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني حين يعيِّن الرَّقيم الموسيقي الخاص بالصوت أو الأغنية، فيقول مثلًا: الغناء لمعبد، ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى أو رمل بالسبَّابة في مجرى البنصر أو ثانٍ ثقيل بالوسطى والخنصر ونحو ذلك.
وليس هذا كل ما جاء به الأجانب، فقد دخلوا أو دخلت كثرتهم في الدين الحنيف بكل ما ورثوه من الثقافة الهيلينية التي كانت منبثقة في العراق والشام ومصر، وهي مزيج من الثقافة اليونانية التي انتشرت في الشرق منذ فتوح الإسكندر وثقافة العصر الإسكندري، ثم ثقافات شرقية مختلفة، منها الدينية وغير الدينية، وكانت هناك مدارس تعنى بهذه الثقافة الهيلينية، كمدرسة جند يسابور وكانت قريبة من البصرة، ومثل مدارس حران والرها ونصيبين في شمالي العراق، ومدرستي قنسرين وأنطاكية في الشام ومدرسة الإسكندرية في مصر. وكانت توجد في بعض الأديرة مدارس صغيرة تعنى بتعليم الدين المسيحي وتتعرض لبعض مبادئ المنطق والفلسفة. ووقف العرب على كثير مما كان في هذه المدارس، وانتقل به إليهم كثير من الموالي. وكانت هناك قوة دافعة تدفع هؤلاء الذين