والولاة بالتقوى وإقامة حدود الشريعة ونشر العدل في الرعية، كما كانوا يهجون بالبدع في الدين والخروج على سننه وتعاليمه. وفرق بعيد بين الحماسة الجاهلية والحماسة الإسلامية فتلك كانت تقوم على شريعة الأخذ بالثأر وهذه كانت تقوم على الجهاد في سبيل الله وإيثار ما عنده على متاع الدنيا الزائل. وتطور الغزل تطورًا واسعًا. وأصبح له شعراؤه الذين يمضون فيه حياتهم، يتحدثون عن قصة الحب وحياته وموته وآلامه، وبذلك اختلف في جوهره عن النسيب الذي كان يوضع في مقدمات القصائد الجاهلية، وقد تأثر بنظرية الغناء التي وضعها الموالي في مكة والمدينة، كما تأثرت جوانب منه بما ملأ به الإسلام نفوس العرب في بوادي نجد والحجاز من نُبْل وتسام وطُهْر؛ فظهر الغزل العذري العفيف عند جميل وأضرابه، كما ظهر الغزل المادي في المدينة ومكة عند عمر بن أبي ربيعة وأمثاله. وحتى وصف الصحراء تحول به ذو الرمة إلى لوحات بديعة. وتعهد الرُّجَّاز فن الرجز، حتى أصبح لا يقل عن فن القصيدة أهمية؛ فالأرجوزة لم تعد أبياتًا معدودة تُنشد في الحروب أو في الحداء أو في أثناء أداء عمل من الأعمال؛ بل أصبحت تتناول كل ما تتناوله القصيدة من موضوعات وطالت طولًا مسرفًا. وفي الوقت نفسه ظهرت طلائع الخمرية عند بعض الْمجَّان في الكوفة وعند الوليد بن يزيد.
غير أن هذه الضروب من التطور بالشعر وما داخلها من صور تجديد لم تنحرف بصناعته إلى مذهب جديد في صنع نماذجه؛ فقد ظل المذهب القديم "مذهب الصنعة" الذي رأيناه في العصر الجاهلي؛ ولكنه نما نموًّا واسعًا. فقد أقبل صُنَّاع الشعر يبالغون في الاهتمام بحرفتهم ويوفرون لها كل ما يمكن من تجويد وتحبير، وعبّروا عن ذلك تعبيرات مختلفة، يقول ذو الرمة١:
وشعرٍ قد أرقتُ له طريفٍ ... أجَنِّبُه الْمُسَانِدَ والمحالا
١ الموشح للمرزباني "طبع المطبعة السلفية" ص١٣. والمساند: من السناد، وهو اختلاف ما يراعى قبل الروي من الحركات والحروف، وهو من عيوب القافية.