للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في إجابة دعواتهم ونصحهم للخلق، وقيل إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر؛ فهم لا ينقضون حتى تقوم الساعة، ويقال هم أربعون رجلًا في أقطار الأرض"١.

وليس كل ما في الأبيات من أثر التصوف هو أنه استعار لفظة الأبدال من الصوفية؛ بل إننا نراه يتحدث عن ممدوحه كأنه يتحدث عن رجل مبارك من رجالهم، بل إنه يتحدث حديث المشعوذين منهم، وإلا فما هذا الماء الذي يمنع الزلزال ويشفي الأعلال؟! وفي كل مكان من شعره نجد أثر هذه الشعوذة وما يتبعها من أفكار الصوفية ومعانيهم. والحق أن المتنبي كان ينزع بشعره منزعًا صوفيًّا يحاول به أن يجدد في فنه؛ ولكن تجديد غريب؛ إذ ما يزال يتصنع لأفكار المتصوفة من حلول وغير حلول يطرز بها أشعاره وقصائده، واقرأ هذا البيت:

تجلّى لنا فأضأنا بِهِ ... كأنّا نجومٌ لقينا سُعودا

ألا تراه يتصنع هنا لفكرة التجلي التي يؤمن بها الصوفية؟ ومن يرجع إلى رسالة القشيري ثم يعود إلى ديوان المتنبي يجده يستعمل كثيرًا من اصطلاحات القوم وألفاظهم، وفي كل مكان من ديوانه نراه يلجأ إلى هذا البِدْع الجديد فهو يستعير اصطلاح الحال٢ في مثل قوله:

وحالاتُ الزمانِ عليك شتّى ... وحالُك واحدٌ في كلِّ حالِ

واصطلاح الخواطر في مثل قوله:

عليمٌ بأسرارِ الدياناتِ واللغى ... له خطراتٌ تفضح الناسَ والكُتُبا

واصطلاح الباطن والظاهر في مثل قوله:

فإذا احتجبتَ فأنت غيرُ محجبٍ ... وإذا بطنتَ فأنت عينُ الظّاهرِ

واصطلاح الحضور والغيبة في مثل قوله:

فدتك نفوسُ الحاسدين فإنها ... معذبةٌ في حضرةٍ ومغيبِ


١ التبيان ٣/ ١٩٦.
٢ انظر في هذا الاصطلاح وما بعده الرسالة القشيرية.

<<  <   >  >>