للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أمِنَ ازديارَكِ في الدُّجى الرُّقباءُ ... إذ حيثُ كنتِ من الظلامِ ضياءُ

فإنك تراه ينأى بجانبه عن ذكر الأطلال والديار إلى مخاطبة صاحبته مباشرة، كما قد يفعل الصوفية في غزلهم، ولعله من أجل ذلك لم يسمِّ صاحبته على طريقتهم واكتفى بأن جعلها ضياء لا يحل في ظلام إلا وينيره. ونحن نجد الشعراء يشبهون صواحبهم بالشمس والقمر ويجعلونهن نورًا وضياءً؛ ولكن العبارة في البيت ونظامها وما فيها من الجمع بين الظرفين "إذ حيث" تدل على تكلف الشاعر وأنه يريد أن يعبر عن معنى غير طبيعي، معنى يأتي به من بيئة الصوفيين ليستولي به على عقل ممدوحه وكان صوفيًّا، وانظر إلى ما يعقب به على هذا البيت؛ إذ يقول:

قلقُ المليحةِ -وهي مسكٌ- هتكها ... ومسيرُها في الليلِ وهي ذُكاءُ١

أسفي على أسفى الذي دَلَّهتني ... عن علمِه فبه عليّ خفاءُ

وشكيَّتي فقدُ السَّقامِ لأنَّهُ ... قد كان لَمَّا كان لي أعضاءُ

فإنك تلاحظ كأن شاعرًا من شعراء الصوفية هو الذي يؤلف هذه الأبيات؛ فقد تغلغلت فيها الأفكار الصوفية إذ بدأ فعبر بالقلق عن السير، وهو تعبير وجداني، ثم استمر يظهر تدلهه وحيرته في حبه وما أصابه من نحول وهزال على نحو ما يظهر العشاق من الصوفيين المدلهين.

وكثيرًا ما يعمد إلى ذلك المتنبي حتى في أشعاره الأخرى التي لم يمدح بها أحدًا من المتصوفة، وهل تدلهه في حبه ودعواه السقم والنحول في شعره إلا أثر من آثار هذه الصوفية المصطنعة، وأنه يستطيع أن يجاري المتصوفة وغيرهم من البيئات في أفكارهم وأساليبهم الخاصة.


١ هتكها: هتك لها. وذكاء: الشمس. وخبر مسيرها محذوف، تقديره: هتك لها.

<<  <   >  >>