فماذا يريد كُثَيِّر بغَمْر الرداء؟ وماذا يريد بغَلْق رقاب المال؟ يريد أن يقول إن صاحبه كريم فعطاؤه يصونه، كما يصونه كما يصون الثوب صاحبه، وهو يصنع لك فرحًا به مبتسمًا؛ فتغلق رقاب المال في أيدي أصحاب الحاجة كما يغلق الرهن في يد المرتهن. وما من شك في أن هذا كله تكلف في التعبير والتصوير يجعلنا نذكر صور الحرب القديمة عند زهير أستاذ المدرسة.
وكثيِّر يصور لنا نمو مذهب الصنعة عنده من جانب آخر وهو جانب الموسيقى فقد كان يصعِّب على نفسه؛ إذ نراه يضيِّق الممرات التي يسلكها إلى شعره كما صنع في قصيدته.
خليليَّ هذا رسم عَزَّةَ فاعْقِلا ... قَلُوصَيْكما ثم ابكيا حيث حلَّت١
فقد التزم اللام المشددة في القصيدة كلها؛ وبذلك كان من أوائل من وضعوا أسس الطريقة التي طبقها أبو العلاء في لزومياته.
وإن الإنسان ليشعر في العصر الإسلامي كأن الشعراء جميعًا يصعبون على أنفسهم، ولعل من أهم الأسباب التي حفزتهم إلى ذلك ما قام بينهم من خصومات فنية استعرت نيرانها، وبخاصة في العراق حيث نشاهد معارك عنيفة بين الشعراء؛ لأن كل منهم يريد أن يشهد له أقرانه بالتفوق والسبق على نحو ما هو معروف في معارك النقائض التي أشرنا إليها، وهي نماذج تحمل غرضين: غرض التفوق الاجتماعي في الفخر والهجاء، وغرض التفوق الفني؛ ولذلك كان الشاعر يتقيد في رده على نموذج خصمه بما اقترحه من وزن وقافية حتى يثبت تفوقه عليه.