الثقافات المختلفة وما يمكن أن يسقط من آرائها. وهي آراء قلما تُستَوعب وتتحول إلى فن كما كان الشأن عند أبي تمام حين رأيناه يحول الألوان القاتمة التي يستعيرها من الثقافة والفلسفة إلى فن؛ فالتاريخ يتحول إلى فن، وكذلك الفلسفة تتحول إلى فن، وكل نبع ثقافي يتحول إلى نبع فني تضيء مياهه بألوان جديدة، هي ألوان الوادي العربي الذي تتحول إليه والذي يحيلها إلى بدع من الزخرف والتصنيع.
ونحن لا نتقدم بعد أبي تمام حتى يتسع مجرى الثقافة العربية لكثرة ما دخل فيه من جداول الثقافات الأجنبية وخاصة الجداول اليونانية؛ ولكن أحدًا من الشعراء لا يستطيع أن يستغل الموارد الأجنبية كما كان يستغلها أبو تمام فهي لا تستنفد، ولا تستوعب، ولا تتحول إلى تراث عربي، بل تبقى على حالها، وكل ما هناك أنها تستعار كما رأينا عند المتنبي، حين كان يستعير من الثقافات المختلفة، ومع ذلك فربما كان المتنبي خير الشعراء الذين جاءوا بعد أبي تمام في استغلال الثقافات استغلالًا فنيًّا؛ فقد استطاع أن ينقل جانبًا من حكم أرسططاليس يفسر الحياة ومشاكلها وخاصة ما اتصل بالناس وطبائعهم؛ مما أعطى لشعره مسحة من الروعة، وهو كذلك حين ينقل عن التصوف أو التشيع كان يريد أن يحول هذه التعبيرات المذهبية إلى تعبيرات فنية، وكأني به كان يريد أن يستوعب في شعره كل ثقافة وكل فلسفة.
والحق أن المتنبي خير شاعر في القرن الرابع نهض بأعباء التصنع الثقافي؛ إذ كان يوازن بينه وبين التعبير الفني، فلم يسقط عنده الشعر العربي، بل استمر له كثير من الروعة؛ غير أنا لا نتركه إلى معاصريه ومن جاءوا بعده حتى نجدهم يتخلفون عنه، فإن أحدًا منهم لم يستطع أن يستوعب جانبًا من الحكمة ويحوله إلى شعر على نمط ما رأينا عنده، إلا ما كان من المعرِّي وتفكيره الفلسفي، وسنعرض له في فصل خاص، أما الشعراء الآخرون فقد اقتصر تجديدهم على نقل المصطلحات الخاصة بالثقافات، دون أن تتحول عندهم إلى جمال أو ما يشبه أن يكون جمالًا.
على كل حال لم يستطع شعراء اليتيمة أن يستغلوا هذا الجانب من التصنع