للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وما زال ببغداد حتى توفي سنة ٤٢٨. ويقول أبو الفرج الجوزي إنه لما أسلم صار رافضيًّا غاليًا، يذكر الصحابة بما لا يصلح، وينقل أن شخصًا قال له: يا مهيار، انتقلت بإسلامك في النار من زاوية إلى زاوية، قال وكيف ذاك؟ قال لأنك كنت مجوسيًّا فأسلمت فصرت تسب الصحابة١. ونرى من ذلك أن مهيار كان أجنبيًّا عن اللغة، وسنرى أنه كان لذلك تأثير واسع في صناعة الشعر عنده؛ إذ كان يضل -في أحوال كثيرة- التعبير عن المعاني الدقيقة، فيسقط إلى ألوان من الإسفاف تذيع سر المهنة عنده، ولذلك كان لا يحسن التعبير الحاد عما في نفسه. وليس من شك في أن هذا الجانب يعد عنده موضع طرافة بالقياس إلى غيره من شعراء الفرس الأولين كبشار وأبي نواس؛ فقد نشئوا نشأة عربية وتثقفوا باللغة تثقفًا، جعلهم ينسلخون عن وراثاتهم وسلائقهم اللُّغوية الخاصة، أما مهيار فقد سلمت له نشأة فارسية أو قل مجوسية؛ ولذلك كانت قصائده تمتلئ بنوافذ يشرف منها الإنسان على فارس، ولولا أنه أخذ نفسه بالأسلوب العربي وتخرج على يد شاعر عربي أصيل؛ وهو الشريف الرضي؛ لكان لفارسيته وأجنبيته عن اللغة العربية أثر أوسع مما نرى الآن في ديوانه. وكان يشعر بهذا الجانب شعورًا متأصلًا في أعماق نفسه، ولعل ذلك ما جعله يقول في وصف أشعاره:

حلىً من المعدنِ الصريحِ إذا ... غشَّ تجارُ الأشعارِ ما جلَبوا

تشكرُها الفرسُ في مديحك للـ ... معنى وتَرضى لسانها العَرَبُ

فمهيار كان يشعر شعورًا عميقًا بفارسيته، وكان يرى أن لهذه الفارسية سمات خاصة في شعره، وهو يرجع هذه السمات إلى ما يسميه المعنى؛ ولكن كلمة المعنى واسعة، ولعل خيرًا من ذلك أن نسميها الروح الفارسية؛ فليس في معاني مهيار ما يمكن أن نسميه فارسيًّا. على أن هناك جانبًا مهمًّا كان يؤثر في شعر مهيار تأثيرًا واسعًا وهو ما يمتاز به من مزاج خاص، وهو مزاج فيه رقة وحدَّة في الحس، وقد نَمَّاه ما انتهت إليه الحضارة العربية من ترف شديد حتى لينقلب إلى ضرب غريب من الدماثة والليونة ما يزال ينتشر في جميع أطراف شعره.


١ انظر: ترجمة مهيار في مقدمة ديوانه "طبع دار الكتب". وراجع فيه: تاريخ بغداد ١٣/ ٢٧٦. ودمية القصر: للياخرزي ٩٦.

<<  <   >  >>