للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ملوكٌ ينزلونَ بكلِّ ثَغْرٍ ... إذا ما الهامُ يوم الرَّوعِ طَارا١

رِزانٌ في الأمورِ ترى عليهم ... من الشيخ الشمائلَ والنِّجارا٢

نجومٌ يُهتدى بهم إذا ما ... أخو الظَّلماءِ في الغمراتِ حارا٣

ولو أن عبد الملك عاش إلى عصر مهيار ووجده ومن حوله من الشعراء يبدئون ويعيدون في صور المديح المحفوظة لكان ذلك أشد إيذاء لنفسه. على أننا نلاحظ أن هذه المعاني التي ذكرها لكعب الأشقري وأمثالها قد تُدوولت واستنفدت في العصر العباسي؛ بحيث لا نصل إلى مهيار حتى نجد الشاعر العربي يقصر عمله على تلفيقها لجميع الممدوحين في مختلف المناسبات بدون تفريق، ومن غير اختلاف في التطبيق.

ونحن لا نتلوم مهيار وغيره من الشعراء لاستعارتهم في المديح الصور المحفوظة والأفكار الموروثة، ولكنا نتلومهم؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يضيفوا إلى هذه الصور والأفكار ثروة زخرفية من التصنيع العقلي والحسي، كما كان الشأن عند أبي تمام، وهل نستطيع أن نقرن قصيدة لمهيار بقصيدة عمورية وما رأينا هناك من مزج أبي تمام بين عناصر الثقافات المختلفة حتى استوت له موسيقاه الرائعة في تلك القصيدة؟ وأكبر الظن أننا لا نبعد إذا قلنا إن من أهم الأسباب في خمود قصيدة المديح لهذه العصور أنها فقدت غالبًا الحادث الخطير الذي تنشد فيه والذي يكسبها ضربًا من الحيوية والقوة على نحو ما نرى عند أبي تمام حين مدح المعتصم بقصيدة عمورية، وعلي نحو ما نرى عند المتنبي في مديحه لسيف الدولة حين كان يصف وقائعه مع الروم؛ غير أنا لا نتقدم بعد المتنبي إلى مهيار حتى يصبح المديح عملًا رسميًّا يقال في المناسبات كتهنئة بنيروز أو عيد أو وزارة، ولم يعد هناك -إذا نحن استثنينا الحروب الصليبية- من البواعث والحوادث الهامة ما يدفع إلى نظمه، وما يعطيه حدة أو قوة، واستمر ذلك شأنه حتى العصر الحديث،


١الهام: الرءوس
٢ رزان: جمع رزين. الشمائل: الطباع. النجار: الأصل والحسب.
٣ أغاني "طبعة دار الكتب" ١٤/ ٢٨٧. والغمرات: الشدائد.

<<  <   >  >>