وصناعته؛ فقد أصبح الفن صعوبة وتعقيدًا خالصين، وأصبحت مهارة الشاعر أن يصيب في شعره حظًّا من هذه الصعوبة أو ذلك التعقيد فإذا المعري يلتمس هذا الجناس الغريب. وأكبر الظن أن خير وصف يمكن أن يضاف إليه أنه جناس لُغوي؛ فقد تحول الجناس عند المعري عن وجهته الأولى، وأنه بديع مستطرف، إلى وجهة لُغوية يريد بها الشاعر أن يثبت مقدرته اللغوية في استخدام الغريب من الألفاظ، واقرأ هذا البيت:
ذوَي كالرَّوضِ روضُك يوم شُبَّتْ ... جمارٌ من لَظَى أسفٍ ذَوَاكِ
فقد استطاع أبو العلاء أن يلفق جناسًا أشد صعوبة من ضروب الجناس السابقة؛ إذ ألفه من كلمة وحرف في كلمة أخرى، وكأنه يريد أن يخطو بالشعر خطوة جديدة في سبيل التعقيد؛ فإذا هو يجانس بين القافية وبين ذوي الأولى وحرف الكاف التالي لها، أرأيت كيف أصبح الجناس عند أبي العلاء عبثًا لغويًّا لا يراد به شيء أكثر من التصعيب والتعقيد؟ وهل هناك شيء أطرف في رأي أبي العلاء ومعاصريه من أن يستخرج أحدهم عقدة جديدة في الشعر؟ بل إنه يلتزم عقدًا كثيرة؛ فإذا هو يقيد نفسه في قوافيه، وإذا هو يرجع إلى ثقافته اللغوية يستمد منها ألفاظه الغريبة التي يستخرج منها هذا الجناس المعقد بين القافية وحشو البيت، وكأني به يرى ذلك ممكنًا فيجانس بين القافية وأول البيت، ثم يرى أن ذلك لا يزال ممكنا أيضًا، فيفكر طويلًا حتى يقع على هذا الجناس بين القافية والكلمة الأولى في البيت وما يجاورها من حرف أو حرفين.
وليس من شك في أن ذلك كله كان مباعدة لأسلوب الوعظ، وكأني باللزوميات إنما جاءت لتحدث هذه الصعوبات والتعقيدات في الشعر وما يطوَى فيها من شعب ومنعطفات؛ أما الوعظ وأما الزهد فقد كانا يأتيان تابعين لهذا العمل المعقد تعقيدًا شديدًا، وإن الإنسان ليخيل إليه كأن اللزوميات بنيت بناية لغة قبل أن تبنى بناية زهد، وهل كان المعري يَطْلب بلوازمه في قوافيه أوفي ألفاظه أن يؤدي حاجة من وعظ؟ لقد كان يؤدي بهذه اللوازم حاجة لغوية؛ فالثقافة اللغوية أهم شيء فكَّر فيه في أثناء عمل لزومياته.