للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويقول بعض أدبائنا: إن ابن زيدون بحتري زماننا وصدقوا"١. وهو حقًّا يشبه البحتري في صوته؛ ولكنه -كما نرى الآن- كان يتتبع غيره من الشعراء ويحتذي على أمثلتهم في أفكاره ومعانيه كقوله في المديح:

ومحاسنٌ تندى رقائقُ ذكرِِها ... فتكادُ توهمُكَ المديحَ نَسِيبا

فإنه من قول أبي تمام:

طابَ فيه المديحُ والتذَّ حتى ... فاق وصفَ الدِّيارِ والتَّشْبيبا

وكذلك قوله:

إن السيوفَ إذا طالَ جوهرُها ... في أول الطبعِ لم يعْلَقْ بها الطَّبعُ٢

من قول أبي تمام:

والسيفُ ما لم يلفَ فيه صيقلٌ ... من سِنْخِهِ لم ينتفع بصِقالِ٣

والحق أن الإنسان لا يتابع ابن زيدون في شعره، حتى يحس بأن هذا الشعر يوشك أن يسقط من ديوانه؛ فيرتد إلى أمكنته من شعر العباسيين، ولعل هذا ما جعل صاحب الذخيرة يقول: "وأبو الوليد ابن زيدون على كثير إحسانه كثير الاهتدام في النِّثار والنظام"٤. وهو حقًّا كثير الاهتدام لأشعار العباسيين يغير عليها فيسلبها من دواوينها ويسلكها في شعره على هذا النحو الذي رأيناه.

وما أشك في أن صوت ابن زيدون اتَّضح لنا الآن فهو -بالرغم مما يبدو عليه من صفاء وعذوبة- صوت مصنوع؛ إذ هو صدى لصوت العباسيين، وهو صدى لا يطَّرد على نسق واحد؛ لأن الشاعر لا يختار له نسقًا معينًا يعيش فيه، بل هو يعيش في كل نسق يقرؤه: فتارة يعيش في جو البحتري وأخرى في جو أبي تمام أو المتنبي أو أبي العلاء من غير تفريق بين هؤلاء الشعراء ومعرفة أن كلا منهم يمثل مذهبًا خاصًّا له، وهذا هو معنى ما نقوله من أن الشاعر الأندلسي ما يزال في شعره يخلط بين جميع المناهج والمذاهب العباسية.


١ الذخيرة ١/ ٣٢٦.
٢ الطبع: الصدأ.
٣ السنخ: الأصل والجنس.
٤ الذخيرة ١/ ٣٠٥.

<<  <   >  >>