كأنها جداول ماء، كما شبه اضطراب الباكين وانسكاب دموعهم بهزة الغصن الذي غمرته أمطار السماء. ولم يكتف بذلك؛ بل راح يشبه أنينهم بصوت قُبَّرة تصفر وتصيح. وانظر كيف تصنع وكيف بالغ في تصنعه، حتى اجتمعت له هذه الصور والخيالات، التي تتجمع حقًّا في الطبيعة؛ ولكن لا يمكن للحس الطبيعي أن يجمعها في رثاء. وعلى هذا النمط كان ابن خفاجة يجمع بين التصنيع والتصنع في شعره، وإننا لنحس إزاءه ما أحسسناه عند سابقيه: ابن برد وابن زيدون من ضرب خواطره وأفكاره وصوره على النماذج المشرقية، ولاحظ ذلك ابن بسام في الذخيرة، فقرنه إلى الشعراء العباسيين، واستخرج طرفًا من أبياته وأشعاره التي نقلها عنهم نقلًا كقوله:
يا بدرَ تِمٍّ زارَني ... منه الهلال وقد تلثَّمْ
فقد أخذه لفظًا ومعنى من قول الشريف الرضي:
تلثَّم مرتابًا بفضلِ ردائِهِ ... فقلت هلالٌ بعد بدرِ تمامِ
ومن ذلك أيضًا قوله:
كأنني بعدكم شمالٌ ... قد فارقتْ منكم يمينَا
وقد أخذه بلفظه ومعناه من قول ابن المعتز:
وإني وإيَّاك مثل اليدينِ ... ولكن لك الفضلُ أنت اليمينُ
ونحن لا نريد أن نطيل بمثل هذه الأمثلة؛ إنما نريد أن نكثر من ذكر الأدلة على صحة ما نقوله من أن شعراء الأندلس لم يحاولوا الثورة على الأوضاع والأنماط العباسية فقد انساقوا يقلدون العباسيين ويحاكونهم، ولم يفكر أحد منهم في الخروج على هذا التقليد وتلك المحاكاة.
ونحن نتساءل هل رأينا حتى الآن شيئًا جديدًا في الأندلس؛ إن الشعراء الأندلسيين لم يستطيعوا أن يحدثوا في عصر ملوك الطوائف وما تلاه من عصور إلى سقوط غرناطة اتجاهًا جديدًا في الشعر العربي يمكن أن نسميه مذهبًا، وهل عندهم إلا التقليد والاطراد مع الأفكار والصور السابقة، وكأني بالحياة العربية