للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"وجد لديه جماعة من الشعراء فاستنشده، فقال: لا، ههنا جماعة من الشعراء هم أقدم مني وأسن، فأذن لهم في الإنشاد، فإن كان شعري نظير أشعارهم أنشدت، وإلا أمسكت، فاستنشدهم، فأنشدوا مديحًا فيه، فلم تكن أشعارهم مقاربة لشعر أبي نواس، فتبسم ثم قال للخصيب: أنشدك -أيها الأمير- قصيدة هي منزلة عصا موسى، تتلقَّف ما يأفكون، قال: هات، فأنشده: "أجارة بيتينا أبوك غيور" حتى أتى على آخرها، فانفض الشعراء من حوله"١.

وواضح ما يدل عليه النص من أن مصر حتى عصر أبي نواس لا تظفر بشاعر ممتاز يقاس إليه وإلى أضرابه من شعراء العراق، ولما قدم بعد ذلك أبو تمام إلى مصر في أوائل القرن الثالث كان أشهر شعرائها سعيد بن عفير والمعلَّى الطائي وابنه حِطَّان. ومن يرجع إلى شعرهم الذي روي في الولاة والقضاة للكندي وخطط المقريزي يلاحظ أنهم كانوا شعراء فحسب، ولكن لم يكونوا شعراء ممتازين بحيث يستطيعون أن يقرنوا إلى كبار الشعراء في العراق.

وإذا استمررنا نتقدم في القرن الثالث أحسسنا بأن مصر بدأت تتضح شخصيتها قليلا، فقد ظهرت فيها طائفة من الصوفية على رأسها ذو النون المصري، كما ظهر فيها الترف، أو بعبارة أدق بدأت تأخذ في أسبابه، وأتاح لها ذلك -من بعض الوجوه- قيام الدولة الطولونية، فإن أحمد بن طولون كانت لديه نزعة إلى الغناء٢ كما كانت لديه نزعة إلى الترف، فاهتم ببناء القصور والبساتين، وقالوا: إنه كان ينفق على طعامه كل يوم ألف دينار٣، وكان ابنه خمارويه يحب الشراب ويسرف فيه٤، ويظهر أنه كان مولعًا بالترف، فقد اهتم اهتمامًا واسعًا بالبستان الذي غرسه أبوه، وجلب إليه ضروب الرياحين والأشجار من كل نوع، كما جلب إليه ضروب الورد والزعفران والنيلوفر، وكسا أجسام النخل نُحاسًا مذهبًا حسن الصنعة، وتفنَّن فيه بضروب من الزخرف.


١ أخبار أبي نواس: لابن منظور "طبع مصر" ص٢٣٤.
٢ المغرب "القسم الخاص بمصر".
٣ النجوم الزاهرة ٣/ ٨.
٤ نشوار المحاضرة: للتنوخي ص٢٦١.

<<  <   >  >>