للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أخرى من غنائهم بالنواعير، كقول أبي الفرج الموقفي في ناعورةٍ١:

ناعورةٌ تحسبُ في صوتِها ... متيمًا يشكو إلى زائرِ

كأنما كيزانُها عصبةٌ ... صيبوا بريبِ الزمنِ الواترِ

قد منعوا أن يلتقوا فاغتَدَى ... أوَّلهم يبكي على الآخِرِ

ويقول ظافر الحداد٢:

وكأنما القُمريُّ ينشد مصرعا ... من كل بيتٍ والحمامُ يُجيزُ

وكأنما الدولابُ يزمُرُ كلما ... غنَّت وأصوات الضفادع شِيزُ٣

وواضح في هذا الشعر ميل الفاطميين إلى جمال التصوير وإدماجه في حسن التعليل، وقد تشبثوا به في شعرهم تشبثًا شديدًا، وهو أحد الألوان المهمة التي تكسب فنهم روعة خاصة، ولعل من الطريف أن الفاطميين كما وصفوا النيل وما على حفافيه من زهور وزروع ونواعير. وصفوا أيضًا ما على ضفتيه من آثار وخاصة الهرمين وأبا الهول، وانظر إلى هذه الصورة التي صورها ظافر الحداد٤:

تأمَّل بِنْيَةَ الهرمين وانظرْ ... وبينهما أبو الهولِ العجيبُ

كعمَّارِيَّتين على رحيلٍ ... لمحبوبين بينهما رقيبُ

وماءُ النيلِ تحتهما دموعٌ ... وصوتُ الريحِ عندهما نحيبُ

وهي صورة طريفة تدل على أن صاحبها من أصحاب المخيلات اللاقطة التي تستطيع أن تضم أجزاء المنظر الواسع في الطبيعة بعضها إلى بعض وتؤلف منها صورة مركزة دقيقة، فإذا الهرمان كمحبوبين في عماريتين أو هودجين يبكيان لرحيلهما وفراقهما، وآية هذا البكاء ذلك النيل الذي يجري تحت أقدامهما متجمعًا من دموعهما!

والحق أن الشعر الفاطمي صور بيئة بلاده تصويرًا طريفًا، وهو كما عني بتصوير البيئة التي كان يتنفس فيها عني كذلك بتصوير أهل هذه البيئة


١ الخريدة ٢/ ٢١٨.
٢ الخريدة ٢/ ١٣، وكان أصل ظافر حدادًا، ثم شَدَا الشعر ونبغ، وله أوصاف كثيرة في النيل والنخيل والبلح بأنواعه. انظر: حسن المحاضرة ٢/ ٢٢٩ وما بعدها.
٣ الشيز: الآبنوس أو خشب الجوز، يريد صوته.
٤ الخريدة ٢/ ٧.

<<  <   >  >>