للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رأينا الفكاهة التي قابلتنا في العصر الفاطمي تقل في هذا العصر، وإن استمر الشعراء يستخدمون التورية؛ ولكنا نلاحظ أن التورية أصبحت عندهم باهتة ولا جمال فيها؛ لأن النفوس لم تكن مطوية على مرح. وكان للحروب الصليبية أثر في ذلك؛ فإنها خلقت جوًّا من الصراع الكئيب بين الشرق والغرب، وكأنما كان انتهاء الدولة الفاطمية مؤذنًا بانتشار هذا الجو الخانق في نفوس الناس، ولعله من أجل ذلك كانوا يتهافتون في هذا العصر تهافتًا شديدًا على ديوان ابن الكيزاني لما فيه من زهد كما يقول صاحب المغرب١، وغنَّاهم ابن الفارض هذه النغمة فأعجبوا به وبشعره الصوفي إعجابًا شديدًا. ولعل من العجيب أن ابن الفارض لم يكن ينهج في شعره نهج ابن الكيزاني من ترك التصنع لفنون البديع، بل على العكس من ذلك نراه لا يكاد يخرج بيتًا دون توشيته بألوان من هذه الفنون، ولعل في ذلك ما يدل على أن موجة البديع وما يطوى فيها من ضروب تصنع كانت أكثر حدَّة في هذا العصر؛ إذ رأيناها تزحف إلى شعر التصوف٢.

على أنه ينبغي أن نعرف أن الفاطميين سبقوا الأيوبيين إلى هذه الجوانب من التصنيع ومن يندمج فيها من الخلط بين المذاهب الفنية المختلفة، وكأني بهم لم يتركوا لهم شيئًا سوى أن يتعلقوا بركابهم. ولعل من الطريف أن المؤرخين قصوا علينا أن القاضي الفاضل كان يتعلق بركاب ابن قادوس بعد خروجهما من الديوان؛ وإن هذه القصة لترمز إلى العصر الأيوبي كله؛ فقد كان شعراؤه يتعلقون بركاب شعراء العصر الفاطمي؛ فهم يحتذون مُثُلَهم ويقلدون نماذجهم ويتصنعون لما تركوه من تورية واقتباس ومراعاة نظير واكتناء، مضيفين ذلك كله إلى مجموعة ألوان التصنيع القديمة من جناس وطباق وتصوير. وكان


١ المغرب ص٢٦١.
٢ يلاحظ أننا أهملنا الحديث في هذا الفصل عن ابن الفارض وشعره الصوفي كما أهملنا البوصيري ومدائحه للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك أهملنا قبل ذلك الحديث عن الشعر الشيعي في العصر الفاطمي؛ لأن هذا الكتاب لا يعنى بالشعر الشيعي والصوفي؛ إنما يعنى بالشعر العربي العام.

<<  <   >  >>