الأندلس ومصر، أما الأندلس فرأيناها تأخذها جميعًا وتطبقها تطبيقًا دون أن تنمِّيها أو تعدل فيها سوى ما أحدثته من الموشحات والأزجال حيث نجد الشاعر يمزج بين الأوزان المختلفة والقوافي المتنوعة في المنظومة الواحدة، وقد حاولنا أن نجد جوانب أخرى تفسر لنا شخصية الأندلس، فتتبعناها في حياتها السياسية والاجتماعية والأدبية، ورأيناها تعيش جملة في الإطار العام لمذاهب الصنعة والتصنيع والتصنع دون أن تحاول إحداث مذهب جديد، إذ كانت تعتمد اعتمادًا على الاستعارة من المشرق بحيث لم نستطع أن نتبين شخصيتها في وضوح، بل بحيث قلنا إن شخصيتها كانت ضعيفة في تاريخ الشعر العربي.
ولما تركنا الأندلس إلى مصر وجدناها حقًّا تقلد المذاهب السابقة، ولكنا رأيناها بعد ذلك تعبر عن شخصيتها في وضوح، إذ صور شعراؤها ما فيها من جنات وزروع ومفاتن جمال، وهم في ذلك لا يتفوقون على الأندلسيين، ولكنهم لا يوضعون في مرتبة متخلفة عنهم، بل نحن لا نبالغ إذا قلنا إن مادة شعر الطبيعة في مصر لا تقل عن مادته في الأندلس، لا من حيث الكمية، ولا من حيث القيمة الفنية الخالصة. وقلد المصريون الأندلسيين في صنع الموشحات والأزجال وتوسعوا فيها وأضافوا إليها النوع المسمى باسم "البُلَّيق" كما أضافوا إليها المواليا والكان وكان والدوبيت مما ذاع في المشرق. على أن مصر تفترق بعد ذلك من الأندلس مفارق واسعة، إذ عبر شعراؤها عن حياتها السياسية وخاصة في الحروب الصليبية تعبيرًا واضحًا، وهم كذلك عبروا عن زهد وتصوف متأثرين فيهما -إلى حد ما- بتراث مصري قديم، كما عبروا عن لهو وترف ونعيم ومجون، ولم يكتفوا بذلك، بل رأيناهم يعبرون عن الروح المصرية التي تشتهر بالفكاهة والدعابة، واستمروا يفصحون عن هذا الجانب الفكاهي بصورة واضحة من العصر الفاطمي إلى العصر العثماني، إذ يسود العقم والجمود كل شيء في مصر، ويحس الإنسان كأنما فقدت لوحة الفن المصرية ألوانها الزاهية البهيجة، أو كأنما تبللت هذه الألوان بالدموع على النهضة الفنية الزائلة، ولذلك كان من العسير أن نجد في العصر العثماني شاعرًا يفصح عن جِدةٍ؛ بل عن مقدرة في التعبير، فقد جمد الفن وعقم التفكير الفني، ولم يعد من الممكن أن يعود الشعراء به إلى روعته القديمة إلا بعد جهود شاقة عسيرة