للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في النَّهر. وأحسن المغنون صناعتهم إحسانًا بالغًا؛ حتى ليذكر الرواة أن مغنيًا هو مخارق غنَّى ذات يوم في متنزه، وقد سنحت ظباء فجاءت إعجابًا بغنائه، وتوسط دجلة يومًا وغنى فلم يبقَ أحد إلا بكى، وكان غناؤه يسر من جماله كل قلب١، ولعل ذلك يفسر انفعال الناس إزاء هذا الفن الذي أحكمه أصحابه؛ فهم يروون أن بعض من كانوا يحضرون المغنين كانوا ينطحون العمد من حسن ما يستمعون٢؛ بل لقد كانوا يرمون بأنفسهم في الفرات من شدة الطرب لا يدرون٣، وقد يمزقون أثوابهم ويعلقون نعالهم في آذانهم، لا يعرفون ما يصنعون٤.

ووُجدت في هذا العصر ضروب الغناء المختلفة التي سبق أن شاهدناها في العصر الإسلامي؛ فكان هناك الغناء العادي كما كان هناك الغناء المصحوب بجوقة والآخر الذي كان يُصْحَب بالرقص. روى صاحب الأغاني أنه اجتمع إبراهيم الموصلي وزلزل وبرصومًا بين يدي الرشيد فضرب زلزل وزمر برصوما وغنى إبراهيم٥، كما روي أن أحمد بن صدقة "دخل على المأمون في يوم الشعانين٦، وبين يديه عشرون وصيفة روميات مزنَّرات قد تزين بالديباج الرومي وعلقن في أعناقهن صلبان الذهب وفي أيديهن الخوص والزيتون فقال له المأمون: ويلك يا أحمد! قد قلت في هؤلاء أبياتًا، فغنني بها. فغناه ولم يزل يشرب وترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص"٧.

وكانت آلات الموسيقى في أغلب الأحيان أربعًا، كأن تكون العود والطنبور والمزمار والْجَنْك. ونما الرقص نموًّا عظيمًا حتى لنرى المسعودي يفرد له فصلًا في مروج الذهب، وفيه نراه يقيسه بمقاييس الغناء من خفيف ورمل وهزج ونحو ذلك٨. ومهما يكن فقد ارتقى الغناء في العصر العباسي، وكثرت ملاهيه وتعددت نواديه، ومن النوادي المشهورة في هذا العصر نادى ابن رامين،


١ محاضرات الأدباء ١/ ٤٤٣.
٢ أغاني "ساسي" ١٥/ ١٤٩.
٣ العقد الفريد ٤/ ١٢٤.
٤ العقد الفريد ٤/ ١٢٤.
٥ أغاني "دار الكتب" ٥/ ٢٤١.
٦ الشعانين، عيد للنصارى.
٧ أغاني "ساسي" ١٩/ ١٣٨.
٨ مروج الذهب ٨/ ١٠٠.

<<  <   >  >>