للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في الدرجة الثانية من فكر بني الإنسان، بعد أن ارتقى عليها وفاقها الفكر الإسلامي في جميع مجالات الحياة، وقد رأينا عمر بن الخطاب يتبع خطوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فهو يقول: "لشريح" حين ولاه قضاء الكوفة: "انظر ما يتبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا، وما لم يتبين لك فاتبع فيه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وما لم يتبين لك في السنة فاجتهد في رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح" ١. وقد حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مواقفه التعليمية على أن يبين للمسلمين أن التعصب والمغالاة أمران مرفوضان في الإسلام، وأنه لا ينشد الصعب أو المستحيل فيما يقول ويعمل، وإنما يريد الأمان بينه وبين ربه، وبيئته ونفسه، والطريق لذلك لا يحتاج إلى خروج على المألوف, أو التزام طرق المحال, وإنما يحتاج إلى الصدق مع الله ومع النفس والعمل الدائب من أجل الحق والعدل والمحبة, وهو في سبيل توضيح ذلك ترخص في أمور كثيرة وهجر أصعبها إلى أيسرها، ولكن بعض الصحابة والمسلمين ظن أن ذلك لا يجوز إلا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتركوا هذه الرخص ولم يعملوا بها, وكان من الممكن أن يحضرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه وأن يؤنبهم على ذلك ويطلب منهم العمل بها, ولكنه على عادته من الرفق بالمخطئ وعدم مواجهته باللوم أمام الناس، وقف خطيبا بين المسلمين ووجه لهم جميعا القول فيما روت عائشة رضي الله عنها قالت٢: صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرا فترخص فيه، فبلغ ناسا من أصحابه، فكرهوه وتنزهوا عنه، فقام خطيبا فقال: "ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه؟ فوالله لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية". ويفسر لنا هذا الموقف أيضا ما روته السيدة عائشة في موضع آخر قالت: ما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم


١ انظر إعلام الموقعين جـ١ ص٧١، ٩٧، ٩٨ وما بعدها.
٢ انظر صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة جـ٩ ص ١٣، ١، ١١٣.

<<  <   >  >>