إلا أننا في العصر الحديث وجدنا عددا من المستشرقين والمسلمين الذين كتبوا في السيرة، يرفضون الإرهاصات باسم العلم والعقل من غير نظر إلى السند، أو مصدر رواية الحدث.
فمنهم مَن رفض هذه الإرهاصات بحجة أن الإسلام لا يحتاج إليها في حركته وانتشاره؛ لأنه يحمل عوامل التصديق به في ذاته، كما أن هذه الإرهاصات لم تؤدِّ إلى إسلام أحد، ولم تكن دليلا على صدق الرسالة يوم بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضا فلقد ولد مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم مولده غيره، ومن الممكن أن يدعي أهل هؤلاء الأبناء وقومهم أن هذه الإرهاصات بسبب ميلاد أبنائهم.
إن هذا الفريق لا يصرح بكذب الإرهاصات، ولا يقول بها؛ لأنها لا تمثل أمامه فائدة تذكر للدعوة الإسلامية.
يقول عباس العقاد: علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة، وهي أسباب تتمهد لظهورها، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أوانها، فإذا تجمعت هذه العلاقات فماذا يلجئنا إلى علامة غيرها؟..
وإذا تعذر عليها أن تتجمع فأي علامة غيرها تنوب عنها أو تعوض ما نقص منها؟ وقد خلق محمد بن عبد الله ليكون رسولا مبشرا بدين، وإلا فلأي شيء خلق؟ ولأي عمل من أعمال الحياة ترشحه كل هاتيك المقدمات والتوفيقات وكل هاتيك المناقب والصفات؟..
إن المؤرخين يجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية يسردون ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه، وما قبله الثقات منها وما لم يقبلوه، وما أيدته الحوادث أو ناقضته، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته، ويتفرقون في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان، وتفسير العِيَان، وتفسير المعرفة، وتفسير الجهالة.
فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد، أو صاحبت الميلاد حين ظهرت الدعوة، واستفاض أمر الإسلام؟..