الأمر الذي مكنه من استيعاب كل ما رأى وما سمع، مما جعل الرحلة تربية عملية، استفادة تجريبية من المعاشرة والاختلاط، والنظر والتحليل، والفهم والتدبر.
في هذه الرحلة وقعت عينا محمد على فسحة الصحراء الممتدة الواسعة، وتعلقتا بالنجوم اللامعة في سمائها الصافية البديعة، وجعل يمر بمدين، ووادي القرى، وديار ثمود، وتستمع أذناه إلى حديث العرب، وأهل البادية، وأخذ يتأمل هذه المنازل، وأخبارها، وماضي نبئها.
وفي هذه الرحلة وقف في بلاد الشام عند الحدائق الغناء، وعرف أخبار الروم ونصرانيتهم، وسمع عن كتابهم، وعن مناوأة الفرس "عُبَّاد النار" لهم، وانتظارهم الوقيعة بهم.
لقد كان له صلى الله عليه وسلم من عظمة الروح، وذكاء القلب، ورجحان العقل، ودقة الملاحظة، وقوة الذاكرة، وغير ذلك من صفات حباه القدر بها ما مكنه من معرفة الواقع الحياتي لكل من قابله، تمهيدا للرسالة العظيمة التي أعده الله لها، الأمر الذي جعله ينظر إلى ما حوله نظرة الفاحص المحقق، فلا يستريح إلى كل ما يسمع ويرى، فيرجع إلى نفسه يسائلها: أين الحق من ذلك كله؟
ويبدو أن أبا طلب لم يستفد من رحلته مالا كثيرا، فعاد إلى مكة، ولم يرجع لمثلها بعد ذلك، وبقي في مكة، يقنع بالقليل ينفقه على أبنائه الكثيري العدد.