وها هي ذي قوافل الغيم، تشبه الخراف البيض، تطاردها الرياح حتى تبعدها عن قمم الجبال، فتضطر إلى الهجرة قبل أن تسيل عبراتها على مسقط رأسها، بلا خيار، ولا قصد، ولا معرفة!!..
وها هي تلك العواصف الممطرة تنفجر شآبيبها الهطالة، فتصب على الجبال العريانة أنهارا من المياه، عنيفة جارفة، لها دوي، ولها زئير.
أمام هذه العناصر الكونية الهائلة، العاتية، التي لم تجرؤ قط، رغم جبروتها على عدم الخضوع، ولو شروى نقير، للقوانين التي تسيرها والتي فرضتها عليها القوة السامية العليا.. إن كل عنصر في فلكه يسبح، وكل عنصر لا يملك إلا الاستسلام والخضوع.. وهكذا رأى الكون في جملته قويا شديدا، وفي نفس الوقت وجده خاشعا ذليلا.
لشد ما بدا لمحمد من ضعف الإنسانية وهوانها!!..
ولكم بدا له غرورة العقل وضلاله!!..
ولكم رأى خداع الحس بالمحسوس، وخيبة الاستدلال بالماديات!!..
أجل، وكم من سخرية في أن تثق الإنسانية بالمحسوسات، مع أنها ترى السراب صورة براقة من موجات الأثير الفائر ليشهدها بذلك على غرورها المطلق!
في مثل هذه الأمور النفسية وغيرها كان محمد صلى الله عليه وسلم يفكر أثناء انقطاعه وتعبده بغار حراء؛ إذ ليس أمامه إلا هذا التدبير.
وكان يتمنى رؤية الحق فيها، وفي الحياة جميعا، وكان تفكيره يملأ نفسه وفؤاده وضميره وكل ما في وجوده، ويشغله لذلك عن هذه الحياة وصبحها ومسائها، فإذا انقضى شهر رمضان عاد إلى خديجة، وبه من أثر التفكير ما يجعلها تسائله، تريد أن تطمئن إلى أنه بخير وعافية.
ولكن..
بأي نسك كان محمد يتعبد أثناء تحنثه ذاك؟ وعلى أن شرع بذاته كان يعمل؟