وأخرى على المكان، وثالثة على الأشخاص، ورابعة على الأحداث، وخامسة على الحوار ... وهكذا تبعا لما يقتضيه مقام إيراد القصة.
ولهذا نرى القصة الواحدة تكرر مرات عديدة في مقامات مختلفة، ويختار منها في كل مقام ما يناسب الغرض المذكور من أجله، وربما كان الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة هو قصة يوسف عليه السلام؛ إذ ذكرت تامة كاملة مرة واحدة.
ولنأخذ للتصوير القرآني للمشاهد والمواقف، وما يلابسها من نزعات وعواطف، مثالا من قصة مريم عليها السلام في السورة المسماة باسمها.
والغرض الذي سيقت له القصة هو بيان الحق في شأن عيسى عليه السلام وولادته من غير أب، ونفي ما نسجه النصارى حوله من دعاوى زائفة، رتبوا عليها ادعاء ألوهيته، أو أنه ابن الإله، إلى آخر ما قالوه.
وقد اختار القرآن الكريم في هذه المقام من المشاهد ما يفي بهذا الغرض، معقبا عليه بتقرير الهدف من القصة في قوله تعالى:{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ١.
أما المشاهد التي اختارها القرآن الكريم فهي مرتبة على النحو التالي: تبدأ بمشهد يمثل مريم بعد أن بلغت مبلغ النساء، وقد انتحت مكانا بعيدا واتخذت حجابا يسترها عن أعين الناس لشأن من شئونها، يقتضي ألا يرها أحد، ويفاجئها الملَك وهي في خلوتها فينتابها الفزع، ويدور بينهما حوار ينتهي باستسلامها لأمر الله ويحدث الحمل.