وبالجملة: فقوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام, وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها، والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها, وفيه لذتها ولا تسكن إلا به ... ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاث في أول الفطرة من التفريط, والإفراط, والاعتدال.
أما التفريط ففقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم ... فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلا, فهو ناقص جدا.
وأما الإفراط فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته, ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر، وسبب غلبته أمور غريزية وأمور اعتيادية.
وإنما المحمود فهو غضب ينتظر إشارة العقل والدين, فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حين يحسن الحلم، وحفظه على حدّ الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده، وهو الوسط الذي وصفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: $"خير الأمور أوساطها"".
"إحياء علوم الدين جـ٣ ص١٦٧-١٦٩".
وهكذا نرى الغزالي قد حدّد الغضب على أنه بعد يمتد بين طرفي التفريط "نقص الصفة" والإفراط "زيادة الصفة" وأن كلا الطرفين ضارّ، فالشخص الذي ينعدم عنده الغضب تتعطل لديه وظيفة هامة يحتاجها للدفاع عن الجوانب التي يعطيها قيمة في حياته بدءا من دينه وعقيدته, وامتدادا إلى كثير من الجوانب الهامة، والشخص الذي تزداد لديه هذه الصفة سوف يكون سريع الغضب, يثير غضبه أتفه الأشياء، وقد يورده هذا الغضب موارد سيئة كثيرة. وهنا نجد الغزالي برغم حديثه عن الغضب كافة إلا أنه أوضح أهمية الغضب ونقيضه ضعفه الشديد، وهو أمر لم يتنبّه إليه الفلاسفة قديما وحديثا "من سقراط إلى ديكارت" "نوفاكو ١٩٧٩ Novaco".
وأما من حيث طبيعة الغضب, فقد أوضح الغزالي أن هناك جانبا فطريا فيه، أي: ينشأ مع الطفل منذ مولده، ويتفق ذلك مع الاتجاه الحديث في دراسة الطباع Temparaments وأهميتها في السلوك، وأن الجانب الآخر جانب مكتسب.