ومن آثار هذه النظرية أيضًا في الفكر الأوروبي هو نفي فكرة الغاية والقصد، فقد جاءت الأديان للتذكير بأن للوجود الإنساني غاية ومقصدا على هذه الأرض، فلما ظهرت نظرية "داروين" على مسرح التفكير الأوربي أسرعت وقالت: إن الإنسان وليد جرثومة تعاقب عليها خط التطور حتى وصلت إلى وضعه الحاضر، وإن عوامل الطبيعة العمياء التي تخبط خبط عشواء -كما قال "داروين"- وراء عملية التطور هذه، وعلى هذا الأساس فمن العبث البحث عن غاية ومقصد من خلق الإنسان.
ومن آثار هذه النظرية أيضا حيوانية الإنسان وماديته، فقد هزت هذه الفكرة المجتمع الأوربي هزة عنيفة، ووجهت إلى الكرامة الإنسانية أعظم لطمة في التحقير عرفتها البشرية، وقد قال "داروين": "إن أصل الإنسان جرثومة صغيرة"!.
وهذا الإيحاء بحيوانية الإنسان زاد الأمر خطورة، وزاد من ذلك إيحاؤه بخضوعه للقوانين المادية وتحكمها فيه وهذا هو الإيحاء المادي للنظرية، فنظرية "داروين" تقدم تفسيرًا معينًا لتطور الحياة من الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان، لكنها تقرر جملة مبادئ، هذه المبادئ تأثرت بها المادية الجدلية وتأثرت بها المادية التاريخية، ومنها أن الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق، وأن الطبيعة تخبط خبط عشواء أي أنها ليس لها مقصد معين من الخلق وليس لها غاية من ورائه، وأن الظروف المادية المحيطة بالكائن الحي هي التي تحكم حياته كما تحكم تطوره، وأن الكائن الحي ليس حرًّا في اختيار طريقة حياته ولا طريقة تطوره، وإنما ذلك مفروض عليه من خارج كيانه من الظروف المادية المحيطة به، وأن الإنسان ليس خلقًا قائمًا بذاته إنما هو نهاية سلسلة التطور الحيواني السابق لوجوده، وأنه في تطوره الأول -الذي أوصله إلى حالته الراهنة- كان محكومًا بنفس الظروف المادية التي حكمت خط التطور السابق عليه، وأنه لا وجود لشيء ثابت في عالم