ذلك أنه يعلم العروض؛ ليكون ميزاناً له على قوله؛ والنحو؛ ليصلح به لسانه وليقيم به إعرابه؛ والنسب وأيام الناس؛ ليستعين بذلك على معرفة المناقب والمثالب وذكرها بمدح أو ذم.
وقد كان الفرزدق على فضله في هذه الصناعة يروي للحطيئة كثيراً، وكان الحطيئة راوية زهير، وكان زهير راوية أوس بن حجر وطفيل الغنوي جميعاً، وكان امرؤ القيس راوية أبي دؤاد الإيادي: مع فضل تحيزه، وقوة غريزة، ولا بد بعد ذلك أن يلوذ به في شعره، ويتوكأ عليه كثيراً، وقد نزل أعشى بني قيس بن ثعلبة بين يدي النابغة الذبياني بسوق عكاظ وأنشده فقدمه، وأنشده حسان بن ثابت، ولبيد بن ربيعة؛ فما عابهم ذلك، ولا غض منهم، وكان كثير راوية جميل ومفضلاً له: إذا استنشد لنفسه بدأ بجميل، ثم أنشد ما يراد منه، ولم يكن بدون جرير والفرزدق، بل يقدم عليهما عند جميع أهل الحجاز، وكان أبو حية النميري واسمه الهيثم بن الربيع، وهو من أحسن الناس شعراً، وأنظفهم كلاماً مؤتماً بالفرزدق، آخذاً عنه، كثير التعصب له والرواية عنه.
ولا يستغني المولد عن تصفح أشعار المولدين؛ لما فيها من حلاوة اللفظ، وقرب المأخذ، وإشارات الملح، ووجوه البديع الذي مثله في شعر المتقدمين قليل، وإن كانوا هم فتحوا بابه، وفتقوا جلبابه، وللمتعقب زيادات وافتنان، لا على أن تكون عمدة الشاعر مطالعة ما ذكرته آخر كلامي هذا دون ما قدمته؛ فإنه متى فعل ذلك لم يكن فيه من المتانة وفضل القوة ما يبلغ به طاقة من تبع جادته، وإذا أعانته فصاحة المتقدم وحلاوة المتأخر اشتد ساعده، وبعد مرماه، فلم يقع دون الغرض؛ وعسى أن يكون أرشق سهاماً، وأحسن موقعاً، ممن لو عول عليه من المحدثين لقصر عنه، ووقع دونه،