للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وتدبر عيناً في صحيفة فضة ... كسواد يأس في بياض رجاء

فاليأس على الحقيقة غير أسود؛ لأنه لا يدرك بالعيان، لكن صورته في المعقول وتمثيله كذلك مجازاً، والرجاء أيضاً على هذا التقدير في البياض.

وقد يقول المحتج الأول: إن هذا داخل في باب الاستطراد، كأن الشاعر لم يقصد الإخبار عن الغرة والطرة وشبههما، لكن عن الوصال والصدود، وعكس التشبيه ثقة بأن ما أشبه شيئاً من جهة فقد أشبهه الآخر من تلك الجهة.

فأما قول ابن المعتز يصف شرب حمار:

وأقبل نحو الماء يشتل صفوه ... كما أغمدت أيدي الصياقل منصلا

فإنه بديع، يشبه فيه انسياب الماء في شدقيه إلى حلقه بمنصل يغمد، وهذا تشبيه مليح يدرك بالحس، ويتمثل في المعقول، وكرر هذا التشبيه فقال يذكر إبل سفر:

وأغمدن في الأعناق أسياف لجةٍ ... مصقلةً تفرى بهن المفاوز

وزعم قدامة أن أفضل التشبيه ما وقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما، حتى يدنى بهما إلى حال الاتحاد، وأنشد في ذلك وهو عنده أفضل التشبيه كافةً:

له أيطلا ظبي، وساقا نعامةٍ ... وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل

وهذا تشبيه أعضاء بأعضاء هي هي بعينها، وأفعال بأفعال هي هي أيضاً بعينها، إلا أنها من حيوان مختلف كما قدمت، والأمر كما قال في قرب التشبيه، إلا أن فضل الشاعر فيه غير كبير حينئذ؛ لأنه كتشبيه نفس الشيء المشبه الذي ذكره الرماني في تشبيه الحقيقة، وإنما حسن التشبيه أن يقرب بين البعيدين حتى تصير بينهما مناسبة واشتراك، كما قال الأشجعي:

كأن أزيز الكير إرزام شخبها ... إذا امتاحها في محلب الحي ماتح

<<  <  ج: ص:  >  >>