للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قواعد للجرح والتعديل لمعرفة الرجال، وكذا الجمع والتوفيق بين المتعارض الصحيح منه، والاعتناء بشرح غريبه، وغير ذلك، ومن هذه الجهود العظيمة التي يحق للمؤمنين أن يفتخروا بها رحلات العلماء في طلب الحديث حيث نشطت في القرن الثالث أكثر من ذي قبل، فكانوا يخرجون من بلادهم تاركين الأهل والأحبة ابتغاء مرضاة الله وحرصاً على تدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أصحابه قد انتشروا في البلاد وسمع البعض منهم ما لم يسمعه البعض الآخر، وحرصاً على تنسيق وتدوين أقواله وأفعاله، حركاته وسكناته، وغزواته، وشمائله، حله، وترحاله، تحملوا الصعاب وقطعوا الفيافي والقفار، وأخذوا يصيبون على من لا يرحل حتى قال يحيى بن معين: "أربعة لا تؤنس منهم رشداً، منهم رجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث" (١). وقال ابن أدهم: "إن الله تعالى يرفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث" (٢). ولم تكن رحلتهم لمجرد اللقاء بالشيوخ وتدوين أحاديثهم، بل كانوا يهدفون منها التعرف على الرواة وأحوالهم من حيث التوثيق والتجريح، واهتمامهم بالتصنيف وغير ذلك من أهل مدنهم وقراهم، وكذلك كانوا يحرصون على علو الإسناد ولقاء الحفاظ.

يقول الخطيب البغدادي: "المقصود بالرحلة في الحديث أمران: أحدهما: تحصيل علو الإسناد، وقدم السماع، والثاني: لقاء الحفاظ والمذاكرة لهم والاستفادة عنهم، فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب، ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة فالاقتصار على ما في البلد أولى" (٣)، ولقد كان لأهل الري نصيب محمود في هذا السعي المبارك، فعدها الرامهرمزي من المراكز العلمية التي كان المحدثون يشدون الرحال إليها طلباً لتدوين الحديث عن علمائها (٤)، وكذلك ذكر ضمن الراحلين الذين جمعوا بين الأقطار، أبا زرعة،


(١) انظر: الرحلة في طلب الحديث للخطيب ص ٤٧، وفتح المغيث ج ٢ ص ٣١٤.
(٢) انظر: الرحلة في طلب الحديث ص ٤٧، وفتح المغيث ج ٢ ص ٣١٥.
(٣) انظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب ورقة (١٦٨ ب، ١٦٩ أ) عن موارد الخطيب للدكتور أكرم العمري ص ٣٤.
(٤) انظر: المحدث الفاصل ص ٢٢٩.