للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقولِهِ - صلى الله عليه وسلم - في الطَّاعونِ: "إذا سَمِعْتُمْ بهِ بأرضٍ؛ فَلا تَدْخُلوها" (١).

ودخولُ النَّسخِ في هذا كما تَخَيَّلَهُ بعضُهُم لا معنى لهُ؛ فإنَّ قولَهُ "لا عدوى" خبرٌ محضٌ لا يُمْكِنُ نسخُهُ؛ إلَّا أنْ يُقالَ: هوَ نهيٌ عن اعتقادِ العدوى لا نفيٌ لها. ولكنْ يُمْكِنُ أنْ يَكونَ ناسخًا للنَّهيِ في هذهِ الأحاديثِ الثَّلاثةِ وما في معناها (٢).

والصَّحيحُ الذي عليه جمهورُ العلماءِ أنَّهُ لا نسخَ في ذلكَ، ولكنِ اخْتَلَفوا في معنى قولِهِ "لا عدوى"، وأظْهَرُ ما قيلَ في ذلكَ أنَّهُ نفيٌ لِما كانَ يَعْتَقِدُهُ أهلُ الجاهليَّةِ مِن أن هذهِ الأمراضَ تُعْدي بطبعِها مِن غيرِ اعتقادِ تقديرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لذلكَ، ويَدُلُّ على هذا قولُهُ "فمَن أعْدى والأوَّلَ"؛ يُشيرُ إلى أن الأوَّلَ إنَّما جَرِبَ بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ فكذلكَ الثَّاني وما بعدَهُ (٣).


= بن حيّان، ثني سعيد بن ميناء، سمعت أبا هريرة … رفعه. قال العسقلاني: "عفّان هو ابن مسلم الصفّار، وهو من شيوخ البخاري … وعلى طريقة ابن الصلاح يكون موصولًا". قال العسقلاني: "وقد وصله أبو نعيم من طريق أبي داوود الطيالسي وأبي قتيبة مسلم بن قتيبة كلاهما عن سليم بن حيّان شيخ عفّان فيه، وأخرجه أيضًا من طريق عمرو بن مرزوق لكن موقوفًا … وقد وصله ابن خزيمة أيضًا". قلت: أبو داوود وسليم ثقتان، والسند صحيح موصولًا، ولا يضرّه الوقف؛ لأنّ الرفع زيادة ثقة.
(١) رواه: البخاري (٧٦ - الطبّ، ٣٠ - ما يذكر في الطاعون، ١٠/ ١٧٨/ ٥٧٢٨)، ومسلم (٣٩ - السلام، ٣٢ - الطاعون، ٤/ ١٧٣٧/ ٢٢١٨)؛ من حديث سعد وغيره.
(٢) يعني: يمكن أن يكون ناسخًا لمفهوم هذه الأحاديث المتقدّمة ودلالتها على ثبوت العدوى.
(٣) مسألة العدوى بين السنّة النبويّة والطبّ الحديث باب واسع جدًّا لا تصلح حواشي هذا الكتاب للتفصيل فيه، ولكنّي لن أخليها من فكرة مختصرة عنها:
* أوّلًا: يرى الأطبّاء المعاصرون: [١] أنّ العدوى أمر صحيح ثابت في بعض الأمراض لا فيها جميعًا. [٢] أنّ انتقال العامل الممرض من زيد إلى عمرو لا يعني أنّ عمرًا سيصاب بالمرض يقينًا، بل ها هنا عوامل عدّة داخليّة وخارجيّة تساعد على ظهور المرض أو تقاومه، وحصول المرض يعتمد على محصّلة هذه العوامل. [٣] أنّ إصابة زيد بالمرض ثمّ إصابة عمرو به بعد ملابسة زيد لا يعني بالضرورة أنّ زيدًا أعدى عمرًا، بل من الممكن جدًّا أن يكون العكس صحيحًا. فهذه قضايا صحيحة وثابتة لا يختلف فيها طبيبان.
* ثانيًا: أرسى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مسألة العدوى الطبّيّة والحجر الصحّيّ في قوله: "لا يورد ممرض على مصحّ"، وقوله: "فرّ من المجذوم فرارك من الأسد"، وقوله: "إذا وقع الطاعون بأرض فلا تفرّوا … ". فهذه نصوص ثلاثة غاية في الوضوح لا ينبغي أن نتغافل عن مدلولاتها إطلاقًا.
* ثالثًا: وكذلك فقد صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - من أوجه قوله: "لا عدوى"، جاء هذا بأصحّ الأسانيد عن جماعة من الصحابة يحيل العقل تخطئتهم فيما نقلوه.

<<  <   >  >>