للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ: ابن مَسْعودٍ؛ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُعْدي شيءٌ شيئًا (قالَها ثلاثًا) ". فقالَ أعرابيٌّ: يا رسولُ اللهِ! النُّقْيَةُ مِن الجربِ تَكونُ بمشفرِ البعيرِ أو بذنبِهِ في الإبلِ العظيمةِ، فتَجْرَبُ كلُّها. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فما أجْرَبَ الأوَّلَ؟ لا عدوى ولا هامَةَ ولا صَفَرَ، خَلَقَ اللهُ كلَّ نفسٍ وكَتَبَ حياتَها ومصابَها ورزقَها" (١). فأخْبَرَ أن ذلكَ كلَّهُ بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ كما دَلَّ عليهِ قولُهُ تَعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}


= * رابعًا: لأهل العلم أقوال كثيرة في التوفيق بين هذه النصوص التي ظاهرها التناقض، ولا يخلو أغلبها من نظر يحول دون الأخذ به، وأولاها بالصواب فيما أرى: [١] ما اختاره ابن القيّم في "مفتاح دار السعادة" من حمل إثباته - صلى الله عليه وسلم - للعدوى على أنّها جزء سبب وحمل نفيه لها على أنّها سبب تام، فهذا أكثر الأقوال تطابقًا مع معطيات الطبّ المعاصر. [٢] أن يكون محلّ نفي العدوى القلب ومحلّ إثباتها البدن، ففي ذلك نهي للمريض عن اعتقاد أنّ فلانًا هو الذي نقل إليه العدوى، وهذا أيضًا يتطابق مع معطيات الطبّ المعاصر؛ لأنّ جزم المريض بأنّ فلانًا بالذات هو الذي أعداه غير مقبول علميًّا في كثير من الأحوال. [٣] أن يكون محلّ نفي العدوى في العلاقات بين المسلمين، فلا ينبغي لأحد أن يتّهم فلانًا من الناس بأنّه سبب مرضه وأصل عدواه؛ لأنّه اتّهام لا يستند إلى أصل علميّ. [٤] أن يكون محلّ نفي العدوى أن يطالب فلانًا من الناس بتعويض ما أصابه أو أصاب دوابّه من المرض للسبب السابق نفسه. [٥] ولا يبعد أن تكون هذه الأمور جميعًا صحيحة ومقصودة بنفي العدوى. والله أعلى وأعلم.
(١) (صحيح). رواه أبو زرعة عمرو بن جرير واختلف عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: أحمد (١/ ٤٤٠)، والترمذي (٢٣ - القدر، ٩ - لا عدوى ولا هامة، ٤/ ٤٥٠/ ٢١٤٣)، وأبو يعلى (٥١٨٢)، وابن أبي حاتم (٢٣١٣) معلّقًا، والطحاوي في "المعاني" (٤/ ٣٠٨)؛ من طريق عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، ثنا صاحب لنا، عن ابن مسعود … رفعه. وهذا سند ضعيف من أجل الرجل المبهم. وقد جاء عند الطحاوي أنّه رجل من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لكن تفرّد بذلك حسّان بن إبراهيم الكرماني، وقد تكلّموا في حفظه. وروى الثاني: أحمد (٢/ ٣٢٧)، وأبو يعلى (٦١١٢)، وابن أبي حاتم (٢٣١٣) معلّقًا، والطحاوي (٤/ ٣٠٨)، وابن حبّان (٦١١٩)، والطبراني في "الأوسط" (٦٧٦٢)، والخطيب في "التاريخ" (١١/ ١٦٨)، والبغوي في "السنّة" (٣٢٤٩)؛ من طريق ابن شبرمة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة … رفعه. وهذا سند قويّ رجاله ثقات.
والطريقان إلى أبي زرعة قويّتان، ويبدو أنّ أبا زرعة سمعه على الوجهين، فإن كان لا بدّ من الترجيح؛ فالوجه الثاني أرجح؛ لأنّ ابن شبرمة أوثق ولأنّ عمارة تابعه عليه مرّة عند ابن حبّان (٦١١٨). وأمّا أبو حاتم فرجّح الوجه الأوّل وقال: "وهو أشبه بالصواب". ولا يخلو قوله هذا من نظر. والله أعلم.
وللحديث طريق أُخرى عن أبي هريرة عند أبي الشيخ في "الطبقات" (٤/ ٤٨)، ولكن لا يفرح بها؛ ففيها عبيد الله بن أبي حميد متروك. فالمعوّل في تقوية هذا الحديث على طريق ابن شبرمة وهو صحيح به. وقد صحّحه ابن حبّان والألباني.

<<  <   >  >>