للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يومًا" (١)، ولم يَصُمْ كذلكَ، بل كانَ يَصومُ سردًا ويُفْطِرُ سردًا، ويَصومُ شعبانَ وكلَّ اثنينِ وخميسٍ. قيلَ: صيامُ داوودَ الذي فَضَّلَهُ على الصِّيامِ قد فَسَّرَهُ - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ آخرَ بأنَّهُ صومُ شطرِ الدَّهرِ، وكانَ صيامُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا جُمعَ يَبْلُغُ صيامَ نصفِ الدَّهرِ أو يَزيدُ عليهِ (٢)، وقد كانَ يَصومُ معَ ما سَبَقَ ذكرُهُ يومَ عاشوراءَ وتسعَ ذي الحِجَّةِ (٣)، وإنَّما كانَ يُفَرِّقُ صيامَهُ ولا يَصومُ يومًا ويُفْطِرُ يومًا؛ لأنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَتَحَرَّى صيامَ الأوقاتِ الفاضلةِ، ولا يَضُرُّ تفريقُ الصِّيامِ والفطرِ أكثرَ مِن يومٍ ويومٍ إذا كانَ القصدُ بهِ التَّقوِّيَ على ما هوَ أفضلُ مِن الصِّيامِ مِن أداءِ الرِّسالةِ وتبليغِها والجهادِ عليها والقيامِ بحقوقِها، وكانَ صيامُ يومٍ وفطرُ يومٍ يُضْعِفُهُ عن ذلكَ. ولهذا لمَّا سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أبي قَتادَةَ عمَّن يَصومُ يومًا ويُفْطِرُ يومينِ؛ قالَ: "وَدِدْتُ أنِّي طُوِّقْتُ ذلكَ" (٤). وقد كانَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بن العاصِ لمَّا كَبُرَ يَسْرُدُ الفطرَ أحيانًا لِيَتَقَوَّى بهِ على الصِّيامِ ثمَّ يَعودُ فيَصومُ ما فاتَهُ؛ محافظةً على ما فارَقَ عليهِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِن صيامِ شطرِ الدَّهرِ. فحَصَلَ للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - أجرُ صيامِ شطرِ الدَّهرِ وأزيدُ منهُ بصيامِهِ المتفرَّقِ، وحَصَلَ لهُ - صلى الله عليه وسلم - أجرُ تتابعِ الصِّيامِ بتمنِّيهِ لذلكَ، وإنَّما عاقَهُ عنهُ الاشتغالُ بما هوَ أهمُّ منهُ وأفضلُ. واللهُ أعلمُ.

• وقد ظَهَرَ بما ذَكَرْناهُ وجهُ صيام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لشعبانَ دونَ غيرِهِ مِن الشُّهورِ، وفيهِ معانٍ أُخرُ، وقد ذَكَرَ منها - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أُسامَةَ معنيينِ:

أحدُهُما: أنَّهُ شهرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عنهُ بينَ رجب ورمضانَ؛ يُشيرُ [إلى] أنَّهُ لمَّا اكْتَنَفَهُ شهرانِ عظيمانِ؛ الشَّهرُ الحرامُ وشهرُ الصِّيامِ؛ اشْتَغَلَ النَّاسُ بهِما عنهُ فصارَ مغفولًا عنهُ.

وكثيرٌ مِن النَّاس يَظُنُّ أن صيامَ رجبٍ أفضلُ مِن صيامِهِ؛ لأنَّهُ شهرٌ حرامٌ، وليسَ كذلكَ.


(١) قطعة من حديث ابن عمرو المتّفق عليه المتقدّم آنفًا.
(٢) من جمع ما ثبت من النصوص في صيامه - صلى الله عليه وسلم - على صعيد واحد، ثمّ نظر فيها نظرة علميّة بعيدة عن العواطف؛ أيقن أنّ هذه دعوى مجرّدة لا تسندها الأدلّة. ولعمر الله إنّه - صلى الله عليه وسلم - لخير الأنبياء وأحبّهم وأقربهم إلى الله وأكثرهم له عبوديّة بما صحّ من النصوص، ثمّ هو بعد ذلك غنيّ عن غلوّ الغالين ووضع الوضّاعين.
(٣) أمّا يوم عاشوراء؛ فنعم، وأمّا عشر ذي الحجّة؛ فقد تقدّم لك ضعف الحديث فيه، وفيه مزيد من التفصيل يأتي في وظائف ذي الحجّة إن شاء الله.
(٤) قطعة من حديث رواه مسلم (١٣ - الصيام، ٣٦ - استحباب صيام ثلاثة أيّام، ٢/ ٨١٨/ ١١٦٢).

<<  <   >  >>