للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وجَعَلَ اللهُ السَّنةَ اثنيْ عشرَ (١) شهرًا، كما قالَ تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: ٣٦]، وذلكَ بعددِ البروجِ التي تَكْمُلُ بدَوْرِ الشَّمسِ فيها السَّنةُ الشَّمسيَّةُ، فإذا دارَ القمرُ فيها كلِّها؛ كَمَلَتْ دورتُهُ السَّنويَّةُ (٢).

وإنَّما جَعَلَ اللهُ الاعتبارَ بدورِ القمرِ؛ لأنَّ ظهورَهُ في السَّماءِ لا يَحْتاجُ إلى حسابٍ ولا كتابٍ، بل هوَ أمرٌ ظاهرٌ يُشاهَدُ بالبصرِ، بخلافِ سيرِ الشَّمسِ؛ فإنَّهُ تَحْتاجُ معرفتُهُ إلى حسابٍ وكتابٍ (٣)، فلم يُحْوِجْنا إلى ذلكَ، كما قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نكتُبُ ولا نَحْسُبُ، الشَّهرُ هكذا وهكذا وهكذا (وأشارَ بأصابعِهِ العشرِ وخَنَسَ إبهامَهُ في الثَّالثةِ). صوموا لرؤيتِهِ وأفْطِروا لرؤيتِهِ، فإنْ غُمَّ عليكُم؛ فأكْمِلوا العِدَّةَ" (٤).

وإنَّما عَلَّقَ اللهُ تَعالى على الشَّمسِ أحكامَ اليومِ مِن الصَّلاةِ والصِّيامِ حيثُ كانَ ذلكَ أيضًا مشاهدًا بالبصرِ لا يَحْتاجُ إلى حسابٍ ولا كتابٍ: فالصَّلاةُ تَتَعَلَّقُ بطلوعِ الفجرِ وطلوعِ الشَّمسِ وزوالِها وغروبِها ومصيرِ ظلِّ الشيءِ مثلَهُ وغروبِ الشَّفقِ، والصِّيامُ يَتَوَقَّتُ بمدَّةِ النَّهارِ مِن طلوعِ الفجرِ إلى غروبِ الشَّمسِ.

وقولُهُ تَعالى: {وَالْحِسَابَ}، يَعْني بالحسابِ: حسابَ ما يَحْتاجُ إليهِ النَّاسُ مِن مصالحِ دينِهِم ودنياهُم كصيامِهِم وفطرِهِم وحجِّهِم وزكاتِهِم ونذورِهِم وكفَّاراتِهِم وعِدَدِ نسائِهِم ومُدَدِ إيلائِهِم ومُدَدِ إجاراتِهِم وحلولِ آجالِ ديونِهِم … وغيرِ ذلكَ ممَّا يَتَوَقَّتُ بالشُّهورِ والسِّنينَ. وقد قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: ١٨٩]: فأخْبَرَ أن الأهلَّةَ مواقيتُ للنَّاسِ عمومًا، وخَصَّ الحجَّ


= وتنقّلها من برج لآخر حدّ سماويّ ظاهر لأهل الفلك والحساب يغني عن عدّ الشهور. وأمّا تعداد السنين؛ فنعم؛ فإنّه لا يعرف إلَّا بطرائق علميّة وحسابات فلكيّة دقيقة.
(١) في خ: "اثنا عشر"؛ على حكاية لفظ الآية، وله وجه صحيح لغة، والأولى ما أثبتّه من ط.
(٢) وذلك أنّ القمر يدور على البروج التي تدور عليها الشمس جميعًا، لكن لمّا كانت حركة القمر بين النجوم أظهر؛ دقّقوا فيها أكثر، فقسّموا تلك البروج إلى ثمانية وعشرين منزلًا.
(٣) لأنّ ضوء النهار يحول دون رؤية النجوم ومعرفة البرج الذي تنزل فيه الشمس بالنظر المباشر.
(٤) رواه: البخاري (٣٠ - الصوم، ١٣ - لا نكتب ولا نحسب، ٤/ ١٢٦/ ١٩١٣)، ومسلم (١٣ - الصيام، ٢ - وجوب الصوم لرؤية الهلال، ٢/ ٧٦١/ ١٠٨٠)؛ من حديث ابن عمر. وليس عند أحدهما هذا السياق بطوله، ولكنّ ابن رجب رحمه الله جمعه من رواياتهما المختلفة للحديث.

<<  <   >  >>