للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عملِهِ آثارٌ مكروهةٌ للنُّفوسِ في الدُّنيا؛ فإنَّ تلكَ الآثارَ غيرُ مكروهةٍ عندَ اللهِ، بل هيَ محبوبةٌ لهُ وطيِّبةٌ عندَهُ؛ لكونها نَشَأتْ عن طاعتِهِ واتِّباعِ مرضاتِهِ. فإخبارُهُ بذلكَ للعاملينَ في الدُّنيا فيهِ تطييبٌ لقلوبِهِم؛ لئلّا يُكْرَهَ منهُم ما وُجِدَ في الدُّنيا.

قالَ بعضُ السَّلفِ: وَعَدَ اللهُ موسى عليهِ السَّلامُ ثلاثينَ ليلةً أنْ يُكَلِّمَهُ على رأْسِها، فصامَ ثلاثينَ يومًا، ثمَّ وَجَدَ مِن فيهِ خُلوفًا، فكَرِهَ أنْ يُناجِيَ ربَّهُ على تلكَ الحالِ، فأخَذَ سواكًا فاسْتاكَ بهِ، فلمَّا أتى لموعدِ اللهِ إيَّاهُ؛ قالَ لهُ: يا موسى! أما عَلِمْتَ أن خُلوفَ فمِ الصَّائمِ أطيبُ عندَنا مِن ريحِ المسكِ، ارْجِعْ فصُم عشرةً أُخرى (١).

ولهذا المعنى كانَ دمُ الشَّهيدِ ريحُهُ يومَ القيامةِ كريحِ المسكِ، وغبارُ المجاهدينَ في سبيلِهِ ذريرةَ أهلِ الجنَّةِ، وَرَدَ في ذلكَ حديثٌ مرسلٌ (٢).

كلُّ شيءٍ ناقصٍ في عرفِ النَّاسِ في الدُّنيا إذا انْتَسَبَ إلى طاعتِهِ ورضاهُ فهوَ الكاملُ في الحقيقةِ.

خُلوفُ أفواهِ الصَّائمينَ لهُ أطيبُ مِن ريحِ المسكِ، عُرْيُ المحرمينَ لزيارةِ بيتِهِ أجملُ مِن لباسِ الحللِ، نَوْحُ المذنبينَ على أنفسِهِم مِن خشيتِهِ أفضلُ مِن التَّسبيحِ، انكسارُ المخبتينَ لعظمتِهِ هوَ الجبرُ، ذلُّ الخائفينَ مِن سطوتِهِ هوَ العزُّ، تهتكُ المحبِّينَ في محبَّتِهِ أحسنُ مِن السَّترِ، بذلُ النُّفوسِ للقتلِ في سبيلِهِ هوَ الحياةُ، جوعُ الصَّائمينَ لأجلِهِ هوَ الشِّبعُ، عطشُهُم في طلبِ مرضاتِهِ هوَ الرِّيُّ، نَصَبُ المجتهدينَ في خدمتِهِ هوَ الرَّاحةُ.

ذُلُّ الفَتى في الحُبِّ مَكْرُمَةٌ … وَخُضوعُهُ لِحَبيبِهِ شَرَفُ

هَبَّتِ اليومَ على القلوبِ نفحةٌ مِن نفحاتِ نسيمِ القربِ.


(١) كذا ذكره كثير من المفسّرين، والظاهر أنّه من الإسرائيليّات، وقد جاء مرفوعًا عند الديلمي في "الفردوس"، ولا يصحّ.
(٢) (ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة (١٩٣٥٩)، وأبو داوود في "المراسيل" (٣٠٥)، والنسائي في "الكبرى" (٣٦٠١ - تحفة) وفي "الكنى" (١/ ٥٠٥ - إصابة)، والبغوي في "الصحابة" (١/ ٥٠٥ - إصابة)، والطبراني (٥/ ٦٩/ ٤٦٠٨)، وابن منده في "الصحابة" (١/ ٥٠٥ - إصابة)؛ من طريق قويّة، عن وبرة الحارثي أبي كرز، عن الربيع بن زيد (أو: الربيع بن زياد، أو: ربيعة بن زيد) … رفعه.
قال الهيثمي (٥/ ٩٠): "رجاله ثقات". قلت: فيه علّتان: أولاهما: أنّ وبرة هذا مجهول الحال.
والثانية: أنّه لا تثبت للربيع صحبة، ولذلك عدّ أبو داوود والمنذري وغيرهما هذا الحديث في المراسيل.

<<  <   >  >>