وهذا الاعتكافُ هوَ الخلوةُ الشَّرعيَّةُ، وإنَّما يَكونُ في المساجدِ؛ لئلَّا يُتْرَكَ بهِ الجمعُ والجماعاتُ؛ فإنَّ الخلوةَ القاطعةَ عن الجمعِ والجماعاتِ منهيٌّ عنها.
سُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ عن رجلٍ يَصومُ النَّهارَ ويَقومُ الليلَ ولا يَشْهَدُ الجمعةَ والجماعةَ؟ قالَ: هوَ في النَّارِ.
فالخلوةُ المشروعةُ لهذهِ الأُمَّةِ هيَ الاعتكافُ في المساجدِ، خصوصًا في شهرِ رمضانَ، خصوصًا في العشرِ الأواخرِ منهُ، كما كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ.
فالمعتكفُ قد حَبَسَ نفسَهُ على طاعةِ اللهِ وذكرِهِ، وقَطَعَ عن نفسِهِ كلَّ شاغلٍ يَشْغَلُهُ عنهُ، وعَكَفَ بقلبِهِ وقالبِهِ على ربِّهِ وما يُقرِّبُهُ منهُ، فما بَقِيَ لهُ همٌّ سوى اللهِ وما يُرْضيهِ عنهُ.
كما كانَ داوردُ الطَّائِيُّ يَقولُ في ليلِهِ: همُّكَ عَطَّلَ عليَّ الهمومَ وحالَفَ بيني وبينَ السُّهادِ، وشوقي إلى النَّظرِ إليكَ أوْبَقَ منِّيَ اللذَّاتِ وحالَ بيني وبينَ الشَّهواتِ.
ما لي شُغُلٌ سِواهُ ما لي شُغُلُ … ما يَصْرِفُ عَنْ هَواهُ قَلْبي عَذَلُ
ما أصْنَعُ إنْ جَفا وَخابَ الأمَلُ … مِنِّي بَدَلٌ وَمِنْهُ ما لي بَدَلُ
فمعنى الاعتكاف وحقيقتُهُ قطعُ العلائقِ عن الخلائقِ للاتِّصالِ بخدمةِ الخالقِ، وكلَّما قَوِيَتِ المعرفةُ باللهِ والمحبَّةُ لهُ والأُنسُ بهِ؛ أوْرَثَتْ صاحبَها الانقطاعَ إلى اللهِ تَعالى بالكلِّيَّةِ على كلِّ حالٍ.
كانَ بعضُهُم لا يَزالُ منفردًا في بيتِهِ خاليًا بربِّهِ، فقيلَ لهُ: أما تَسْتَوْحِشُ؟ قالَ: كيفَ أسْتَوْحِشُ وهوَ يَقولُ: أنا جليسُ مَن ذَكَرَني؟!
أوْحَشَتْني خَلَواتي … بِكَ مِنْ كُلِّ أنِيسي
وَتَفَرَّدْتُ فَعايَنـ … تُكَ بِالغَيْبِ جَليسي
• يا ليلةَ القدرِ! للعابدينَ أشْهَدي، يا أقدامَ القانتينَ! ارْكَعي لربِّكِ واسْجُدي، يا ألسنةَ السَّائلينَ! جُدِّي في المسألةِ واجْتَهِدي.