للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل: ١٠٨].

* ومنهُم مَن يَنْتَفعُ بِما سَمِعَهُ. وهُم على أقسامٍ: فمِنْهُم مَن يَرُدُّهُ ما سَمِعَهُ عن المحرَّماتِ ويُوجبُ لهُ التزامَ الواجباتِ، وهؤلاءِ المقتصدونَ أصحابُ اليمينِ. ومنهُم مَن يَرْتَقي عن ذَلكَ إلى التَّشميرِ في نوافلِ الطَّاعات والتَّورُّعِ عَن دقائقِ المكروهات ويَشْتاقُ إلى اتِّباعِ آثارِ مَن سَلَفَ مِن السَّادات، وهؤلاءِ السابقونَ المقرَّبونَ.

• ويَنْقَسِمُ المنتفعونَ بسماعِ مجلسِ الذكرِ في استحضارِ ما سَمِعوهُ (١) في المجلسِ والغفلةِ عنهُ إلى أقسامٍ ثلاثةٍ:

• فقسمٌ يَرْجِعونَ إلى مصالحِ دنياهُمُ المباحةِ فيَشْتَغِلونَ بها فتَذْهَلُ بذلكَ قلوبُهُم عمَّا كانوا يَجِدونَهُ في مجلسِ الذِّكرِ مِنِ استحضارِ عظمةِ اللهِ وجلالِهِ وكبريائِهِ ووعدِهِ ووعيدِهِ وثوابِهِ وعقابِهِ، وهذا هوَ الذي شَكاهُ الصَّحابةُ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وخَشُوا - لكمالِ معرفتِهِم وشدَّةِ خوفِهِم - أنْ يَكونَ نفاقًا، فأعْلَمَهُمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ ليسَ بنفاقٍ.

وفي "صحيح مسلم" (٢): عن حَنْظَلَةَ؛ أنَّهُ قالَ: يا رسولَ اللهِ! نافَقَ حَنْظَلَةُ. قالَ: "وما ذاكَ؟ ". قالَ: نَكونُ عندَكَ فتُذَكِّرُنا بالجنَّةِ والنَّارِ كأنَّهُما رَأْيُ عينٍ، فإذا رَجَعْنا مِن عندِكَ؛ عافَسْنا (٣) الأزواجَ والضَّيْعَةَ ونَسِينا كثيرًا. فقالَ: "لو تَدومونَ على الحالِ التي تَقومونَ بِها مِن عندي؛ لَصافَحَتكُمُ الملائكةُ في مجالسِكُم وفي طرقِكُم، ولكنْ يا حَنْظَلَةُ! ساعةً وساعةً". وفي روايةٍ لهُ أيضًا: "لَو كانَتْ تكونُ قلوبُكُم كَما تَكونُ عندَ الذِّكرِ؛ لَصافَحَتْكُمُ الملائكةُ حتَّى تُسَلِّمَ عليكُمْ في الطُّرفِ".

ومعنى هذا أن استحضارَ ذكرِ الآخرةِ بالقلبِ في جميعِ الأحوالِ عزيزٌ جدًّا، ولا يَقْدِرُ كثيرٌ مِن النَّاسِ أو أكثرُهُم عليهِ، فيُكْتَفى منهُم بذكرِ ذلكَ أحيانًا وإنْ وَقَعَتِ الغفلةُ عنهُ في حالِ التَّلبُّسِ بمصالحِ الدُّنيا المباحةِ. ولكنَّ المؤمنَ لا يَرْضى مِن نفسِهِ بذلكَ، بل يَلومُ نفسَهُ عليهِ ويَحْزُنُهُ ذلكَ من نفسِهِ.


(١) فالتقسيم الأوّل باعتبار انتفاعهم بما سمعوه وهذا باعتبار استحضارهم له.
(٢) (٤٩ - التوبة، ٣ - فضل دوام الذكر، ٤/ ٢١٠٦/ ٢٧٥٠)؛ الروايتين.
(٣) في حاشية خ: "أي: عالجنا".

<<  <   >  >>