للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَكَّرَ في أفْعالِهِ ثُمَّ صاحْ … لا خَيْرَ في الحُبِّ بِغَيْرِ افْتِضاحْ

قَدْ جِئْتكُمْ مُسْتَأْمِنًا فَأرْحَموا … لا تَقْتُلوني قَدْ رَمَيْتُ السِّلاحْ

إنَّما يَصْلُحُ التَّأديبُ بالسَّوطِ مِن صحيحِ البدنِ ثابتِ القلبِ قويِّ الذِّراعينِ، فيُؤْلِمُ ضربُهُ، فيَرْدَعُ. فأمَّا مَن هوَ سَقيمُ البدنِ لا قوَّةَ لهُ؛ فماذا يَنْفَعُ تأْديبُهُ بالضَّربِ؟!

كانَ الحَسَنُ إذا خَرَجَ إلى النَّاسِ فكأنَّهُ رجلٌ عايَنَ الآخرةَ ثمَّ جاءَ يُخْبِرُ عنها، وكانوا إذا خَرَجوا مِن عندِهِ؛ خَرَجوا وهُم لا يَعُدُّونَ الدُّنيا شيئًا.

وكانَ سُفْيانُ يُتَعَزَّى بمجالسِهِ عن الدُّنيا.

وكانَ أحْمَدُ لا تُذْكَرُ الدُّنيا في مجلسِهِ ولا تُذْكَرُ عندَهُ.

قالَ بعضُهُم: لا تَنْفَعُ الموعظةُ إلَّا إذا خَرَجَتْ مِن القلبِ؛ فإنَّها تَصِلُ إلى القلبِ، فأمَّا إذا خَرَجَتْ مِن اللسانِ؛ فإنَّها تَدْخُلُ مِن الأذنِ ثمَّ تَخْرُجُ مِن الأخرى.

قالَ بعضُ السَّلفِ: إنَّ العالِمَ إذا لمْ يُرِدْ بموعظتِهِ وجهَ اللهِ؛ زَلَّتْ موعظتُهُ عن القلوبِ كما يَزِلُّ القَطْرُ عن الصَّفا.

كانَ يَحْيى بنُ مُعاذٍ يُنْشِدُ في مجالسِهِ:

مَواعِظُ الواعِظِ لَنْ تُقْبَلا … حَتَّى يَعِيَها قَلْبُهُ أوَّلا

يا قَوْمِ مَنْ أظْلَمُ مِنْ واعِظٍ … خالَفَ ما قَدْ قالَهُ في المَلا

أظْهَرَ بَيْنَ النَّاسِ إحْسانَهُ … وَبارَزَ الرَّحْمنَ لَمَّا خَلا

العالمُ الذي لا يَعْمَلُ بعلمِهِ مَثَلُهُ كمَثَلِ المصباحِ يُضيءُ للنَّاسِ ويُحْرِقُ نفسَهُ.

قالَ أبو العَتاهِيَةِ:

وَبَّخْتَ غَيْرَكَ بِالعَمى فَأفَدْتَهُ … بَصَرًا وَأنْتَ مُحَسِّنٌ لِعَماكا

وَفَتيلَةُ المِصْباحِ تُحْرِقُ نَفْسَها … وَتُضيءُ لِلأعْشى وَأنْتَ كَذاكا

المواعظُ دِرياقُ (١) الذُّنوبِ، فلا يَنْبَغي أنْ يَسْقِيَ الدِّرياقَ إلَّا طبيبٌ حاذقٌ معافى،


= والوصول، ويزيّنون له الجوع والسهر والذكر المرهق، فينهار جسده تحت وطأة هذا ويتوقّف قلبه! ثمّ يقولون: ما ذنبنا؟! يقول شيخ الإسلام: "إذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا". فهذا كذاك.
(١) الدرياق والترياق واحد، وهو الدواء المضاد للسم.

<<  <   >  >>