للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنْ يَخْدُمَهُم، فكانَ إذا رَأى رجلًا يُريدُ أنْ يَغْسِلَ ثوبَهُ؛ قالَ لهُ: هذا مِن شرطي، فيَغْسِلُهُ، وإذا رَأى رجلًا يُريدُ أنْ يَغْسِلَ رأْسَهُ؛ قالَ لهُ: هذا مِن شرطي، فيَغْسِلُهُ. فلمَّا ماتَ؛ نَظَروا في يدِهِ، فإذا فيها مكتوبٌ: مِن أهلِ الجنَّةِ، فنَظَروا إليها؛ فإذا هيَ كتابةٌ بينَ الجلدِ واللحمِ (١)!

وتَرافَقَ بُهَيْمٌ العِجْلِيُّ - وكانَ مِن العابدينَ البكَّائينَ - ورجلٌ تاجرٌ موسرٌ في الحجِّ، فلمَّا كانَ يومُ خروجِهِم للسَّفرِ؛ بكى بُهَيْمٌ حتَّى قَطَرَتْ دموعُهُ على صدرِهِ ثمَّ قَطَرَتْ على الأرضِ، وقالَ: ذَكَرْتُ بهذهِ الرِّحلةِ الرِّحلةَ إلى اللهِ، ثمَّ عَلا صوتُهُ بالنَّحيبِ. فكَرِهَ رفيقُهُ التَّاجرُ منهُ ذلكَ، وخَشِيَ أنْ يُنَغَّصَ عليهِ سفرَهُ معَهُ بكثرةِ بكائِهِ. فلمَّا قَدِما مِن الحجِّ؛ جاءَ الرَّجلُ الذي رافَقَ بينَهُما [إليهِما] لِيُسَلِّمَ عليهِما، فبَدَأ بالتَّاجرِ فسَلَّمَ عليهِ وسَألَهُ عن حالِهِ معَ بُهَيْمٍ، فقالَ لهُ: واللهِ؛ ما ظَنَنْتُ أن في هذا الخلقِ مثلَهُ! كانَ واللهِ يَتَفَضَّلُ عليَّ في النَّفقةِ وهوَ معسرٌ وأنا موسرٌ، ويَتَفَضَّلُ عليَّ في الخدمةِ وهوَ شيخٌ ضعيفٌ وأنا شابٌّ، ويَطْبُخُ لي وهوَ صائمٌ وأنا مفطرٌ. فسَألَهُ عمَّا كانَ يكْرَهُهُ منهُ مِن كثرةِ بكائِهِ؟ فقالَ: ألِفْتُ واللهِ ذلكَ البكاءَ وأُشْرِبَ حبَّهُ قلبي حتَّى كُنْتُ أُساعِدُهُ عليهِ حتَّى تَأذَّى بنا الرفقةُ ثمَّ ألِفوا ذلكَ فجَعَلوا إذا سَمِعونا نَبْكي بكَوْا، وتقولُ بعضُهُم لبعضٍ: ما الذي جَعَلَهُما أولى بالبكاءِ منَّا والمصيرُ واحدٌ؟! فجَعَلوا واللهِ يَبْكونَ ونَبْكي. ثمَّ خَرَجَ مِن عندِهِ فدَخَلَ على بُهَيْمٍ فسَلَّمَ عليهِ وقالَ لهُ: كيفَ رَأيْتَ صاحبَكَ؟ قالَ: خيرُ صاحبٍ، كثيرُ الذِّكرِ للهِ، طويلُ التِّلاوةِ للقرآنِ، سريعُ الدَّمعةِ، متحمِّلٌ (٢) لهفواتِ الرَّفيقِ، فجَزاكَ اللهُ عنِّي خيرًا.


(١) ميزان العلم قسطاس مستقيم، تطيش فيه أحاديث القصّاص وملح المجالس وقيل وقال وحدّثني قلبي عن ربّي وتذهب جفاء، فلا يرجح فيه إلّا العلم الرصين سواء أكان رواية أو دراية. المشكل هنا أنّنا إذا قال الحسن البصريّ: عن أنس عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، توقّفنا في روايته وقلنا: قد عنعن على تدليسه! فإذا سمعنا قصّة كالقصّة المذكورة، الله أعلم بصاحبها وبنقلتها؛ تلقّفناها وأذعناها وأشعناها! وقد كثر هذا اليوم وأفاض الناس فيه: فهذا يقسم أنّ وليّ الله الفلانيّ مات وبقي قلبه ينبض حتّى جاء طبيب مسلم عاقل (!) فقال: ادفنوه، إن قلبه لا ينبض، إنّه يقول: الله الله، وسيبقى كذلك إلى قيام الساعة! وآخر يقول: بقي إصبعه يتحرّك بالشهادة وهو في الأكفان! وثالث شقّوا عن قلبه فرأوا عليه "الله" أو "لا إله إلا الله" .... إلى آخر هذه الترّهات.
(٢) في خ: "محتمل"، وما أثبتّه من م ون وط أقوى.

<<  <   >  >>