للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إنَّما يَحْسُنُ البكاءُ والأسفُ على فواتِ الدَّرجاتِ العلى والنَّعيمِ المقيمِ.

قالَ بعضُهُم: يُرى رجلٌ في الجنَّةِ يَبْكي، فيُسْألُ عن حالِهِ، فيَقولُ: كانَت لي نفسٌ واحدةٌ فقُتِلَتْ في سبيلِ اللهِ، ووَدِدْتُ أنَّهُ كانَتْ لي نفوسٌ كثيرةٌ تُقْتَلُ كلُّها في سبيلِ اللهِ (١)!

غزا قومٌ في سبيلِ اللهِ، فلمَّا صافُّوا عدوَّهُم واقْتَتَلوا؛ رأى كلُّ واحدٍ منهُم زوجتَهُ مِن الحورِ قد فتَحَتْ بابًا مِن السَّماءِ وهيَ تَسْتَدْعي صاحبَها إليها وتَحُثُّهُ على القتالِ، فقُتِلوا كلُّهُم إلَّا واحدًا، وكانَ كلَّما قُتِلَ منهُم واحدٌ، أُغْلِقَ بابٌ وغابَتْ منهُ المرأةُ، فأُفْلِتَ آخرُهُم، فأغْلَقَتْ تلكَ المرأةُ البابَ الباقيَ وقالَتْ: ما فاتَكَ يا شقيُّ! فكانَ يَبْكي على حالِهِ إلى أنْ ماتَ. ولكنَّهُ أوْرَثَهُ ذلكَ طولَ الاجتهادِ والحزنِ والأسف (٢).

عَلى مِثْلِ لَيْلى يَقْتُلُ المَرْءُ نَفْسَهُ … وَإنْ كانَ مِنْ لَيْلى عَلى الهَجْرِ طاوِيا

• لمَّا سَمعَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهُم قولَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: ١٤٨، المائدة: ٤٨]، وقولَهُ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: ١٣٣]؛ فَهِموا مِن ذلكَ أن المرادَ أنْ يَجْتَهِدَ كلُّ واحدٍ منهُم أنْ يَكونَ هوَ السَّابقَ لغيرِهِ إلى هذهِ الكرامةِ والمسارعَ إلى بلوغِ هذهِ الدَّرجةِ العاليةِ، فكانَ أحدُهُم إذا رَأى مَن يَعْمَلُ عملًا يَعْجِزُ عنهُ؛ خَشِيَ أنْ يَكونَ صاحبُ ذلكَ العملِ هوَ السَّابقَ لهُ، فيَحْزَنُ لفواتِ سبقِهِ، فكانَ تنافسُهُمِ في درجاتِ الآخرةِ واستباقُهُم إليها، كما قالَ تَعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: ٢٦]. ثمَّ جاءَ مَن بعدَهُم، فعَكَسَ الأمرَ، فصارَ تنافسُهُم في الدُّنيا الدَّنيَّةِ وحظوظِها الفانيةِ.

قالَ الحَسَنُ: إذا رَأيْتَ الرَّجلَ يُنافِسُكَ في الدُّنيا؛ فنافِسْهُ في الآخرةِ.

وقالَ وُهَيْبُ بنُ الوَرْدِ: إنِ اسْتَطَعْتَ ألَّا يَسْبِقَكَ أحدٌ إلى اللهِ فأفْعَلْ.


(١) هذا (البعضهم) من أين له هذا الكلام؟! هذا كلام لا ينبغي أن يقوله المرء اجتهادًا من كيسه! رحم الله من قال: لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
(٢) ربّما كان هذا الذي أفلت خيرًا عند الله من صاحبيه، وقد تقدّم لك حديث سبق صاحب الفراش للشهيدين بأعمال البرّ التي عملها بعدهما (ص ٣٤٩) فراجعه فإنّه مهمّ.

<<  <   >  >>